لم تبتعد صناعة الفيلم السوري، في خلال الأعوام الأخيرة، عن واقع الحرب السورية، حاول مخرجون عديدون أن يقرأوا المحنة والموت والدمار، وأن يقدموا شهادة إنسانية من داخل اللهيب واللحظة المشتعلة، فكانت الكاميرا مرآة للمجتمع السوري وتحولاته، وللفرد وآلامه، أثناء الحرب وما بعدها، كما لو كانت السينما وصانعوها يتمرنون على مواجهة الخوف بعين ثاقبة، وهذا ما فعله واحد من الأفلام الأحدث وهو "الظهر إلى الجدار"، تأليف وإخراج أوس محمد، إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بطولة أحمد الأحمد، عبد المنعم عمايري، لين غرة، علي صطوف، الفرزدق ديوب، حمادة سليم.
الفيلم شارك في الدورة الـ 37 لمهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، وفاز بطله أحمد الأحمد بجائزتي أفضل ممثل في مسابقتي المهرجان (الدولية والعربية)، وفيه يلتقط مؤلفه ومخرجه أوس محمد، الحالة السورية الخاصة من نقطة التماس بين الموت والحياة، حيث لا أحد تحرر من العلاقة الملتبسة والمتوترة بالحرب، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس فيلمًا مباشرًا عن الحرب، أو مسارها العسكري والاقتتالي، وإنما شهادة فنية حية للواقع السوري وأثر الحرب عليه، بنيّة محاولة فهم ما جرى.
إن أوس محمد، مؤلفًا ومخرجًا لم يشأ بالتأكيد أن يكون من جيل الحرب، أن يستهل مشواره السينمائي بأول عمل روائي طويل من خضم هذه الحرب وكابوسيتها، بل إن أفلامه الروائية القصيرة السابقة، باستثناء "ألوان" (2010)، أُنتجت إثر الحرب التي أصبحت محورًا في الخيال الإبداعي، فمن "سراب" (2016)، "يوم من 365 يوم" (2017)، "88 خطوة" (2018)، والوثائقي " معلولا قصة الحجر الحي" (2012)، إلى "الظهر إلى الجدار" (2021)، جاءت أفلامه متعلقة بالحرب ومناخها الإنساني وتفاصيلها اليومية.
ثمة أكثر من نقطة لافتة بالفيلم، بداية من الحكاية التي تتسلل إلى باطن المشهد السوري، وتتوغل في التحول العنيف لمسار المجتمع السوري وأحوال ناسه، في الحكاية الحرب حاضرة، لكن هناك قصص إنسانية خلف هذه الحرب، أو بالأحرى القصص هي الأبرز، بينما الحرب موجودة في الخلفية، يرافقها سؤال أساسي: هل يمكن تصوير فيلم تدور أحداثه عن ناس عاشوا الحرب والأزمة السورية، ولامسوا عنفها وفقدان أهلهم، من دون أن يسفر الأمر عن فيلم غارق في الأيديولوجيا، أو يزعق بها، يبدو هنا تأثر أوس محمد بالسينما السوفيتية، وهو الدارس في أوكرانيا قبل إحترافه في دمشق، إنه يبدو مستوعبًا المدرسة السينمائية السوفيتية بعمقها ولغتها، وكذلك انعكاس الأدب السوفييتي على أغلب إنتاجها، بما يحقق مزيجًا مدهشًا يجمع روح الأدب بالصورة السينمائية، ويتجاوز الشكل إلى القدرة على التوغل في الذات الإنسانية ومعرفة الدوافع التي تكوّن هذه الذات أو تُغيرّها.
بهذه النقطة الفنية، يستفيد "الظهر إلى الجدار" من الأسلوب السوفييتي في الولوج إلى روح أبطاله، وأدق أحاسيسهم، فالحرب في حد ذاتها لا تعني صانع الفيلم، كما قال لي في حوار صحفي معه، إنما تعنيه النتيجة، والإجابة عن السؤال الواقعي: أين كان الفرد السوري ثم بأي مكان صار، ما الذي تغير؟ ما الذي تحطم؟...
من هذا السؤال نصل إلى النقطة الثالثة وهي أن المخرج إتخذ منحى واقعيًا لفيلمه، ينطلق من أحداث وقعت بالفعل، وصارت هي جوهر حكايته وخطوته الأولى في رسم طريق الخروج إلى أفق جديد للخلاص، أكثر رحابة من هذه الصحراء التي يبدأ بها الفيلم، حيث يرى مجندين في الجيش السوري هذا المجهول، الجريح، القادم من بعيد، لا اسم له ولا عنوان، لكنه يأت كالعاصفة يتلقفه المجندون، ثم تختفي الصحراء والجنود والمجهول الذين امتزجوا بها كأنهم جزءً لا يتجزأ منها، لنتتبع رحلة الدكتور قصي.
الدكتور قصي إذن هو النقطة الرابعة، كشخصية محورية يقدمها الفيلم، وكدور يؤديه أحمد الأحمد، نتعرف عليه كأستاذ يدرس الإعلام بإحدى الجامعات، مهتم بالاستقصاء للوصول إلى الحقيقة، يستعرض لطلابه حالة أحد المجرمين، وكيف إستطاع بأسلوبه الخاص أن يستجوبه ليعترف بجرائمه، لم يهتم بمشاعره عقب إرتكاب الجرائم والاعتراف بها، وهذا ما نفهمه من رده على سؤال أحد طلابه، حول ما إذا كان المجرم شعر بالندم، بأنه لا يهتم سوى بالنتيجة، يعني بالواقع، وهو كما أشرنا التوجه الأساسي في الفيلم، عبر رحلة بحث يباشرها قصي، لعله يجد إجابة شافية لما حدث مع صديق طفولته وصباه، بعد ما أخبره طبيب المستشفى النفسي، أنه نزيل لديهم ولا يعلمون عنه شيئًا.
في هذه الرحلة حالة من الإثارة تجعل المتلقي يتطلع إلى سر غامض وكبير وراء الحكاية، هل هناك جريمة ما؟ ماهي؟ من المتسبب فيها؟ حتى نصل إلى قصة إنسانية، تتخللها هذه الإثارة والفضول، كما لو كانت عين المخرج على الجمهور، باعتبار أن السينما فن جماهيري، فأراد أن يجعل المتفرج شريكًا في الأسئلة من ناحية، ومن ناحية أخرى يخلع عن الفيلم إنطباع النخبوية، أو أنه موجه إلى فئة معينة، خصوصًا وأن بطله أستاذ جامعي جاد، ملتزم، كلاسيكي في مظهره وبذلته الرسمية وحتى في شكل بيته المرتب، وتواصله مع أهله الغائبين، وصديقته ريما (لين غرة) فنانة تشكيلية، عصرية، منطلقة، جريئة، مستقلة.
هناك تصادم بينهما يظهر في حوارهما أمام تمثال المرأة المقيدة التي تقوم ريما بنحته، أو النقاش حول ملبسها أو أسلوبها العام في الحياة، لكن هذا الانطباع الأولي بنخبوية الفيلم يتلاشى مع تصاعد الأحداث ورسوخ حالة الحنين التي يحتويها الفيلم، وتبرز بظهور شخصيات مختلفة تعبر عن التنوع في المجتمع السوري، كما الصديق خفيف الظل للدكتور قصي ورفيقه على المقهى وفي رحلة البحث، أو هذه السيدة المسيحية الحنونة "أم جورج" (فيلدا سمور)، الجارة القديمة من حي التجارة، أو مختار القرية (فايز قزق) الذي صار بعين واحدة ومع ذلك يصر على لضم الإبرة بالخيط وبدون نظارة، أو الجار الفزِع (أكثم حمادة) بعد المجزرة التي إرتكبتها الجماعات الإرهابية في منطقته عدرا عام 2013، أو الصديق المكلوم (عبد المنعم عمايري) الذي يقتل الإرهابيون عائلته بأكملها أمام عينيه، ويحاولون قتله قبل أن يهرب إلى الصحراء، ويعثر عليه المجندين بالجيش السوري.
من بداية الفيلم لنهايته، يتتبع أوس محمد من خلال الدكتور قصي مسار التحول في الشخصية السورية، بأداء حركي وتعبيري بالوجه والجسد دون تكلف، وحضور خاص لممثل يستطيع أن يخلق تواصلًا بينه وبين المتفرج، قادر على الإمساك بكل شيء، أداء متقن في تقديم الشخصية إلى أقصى حضورها، وفي طياتها الشفافية والإحساس ممزوجًا بقسوة المجتمع المحيط، لذا يصعب النظر إلى فوز أحمد الأحمد بجائزتي أفضل ممثل في مسابقتي مهرجان الإسكندرية، بمعزل عن موضوع الفيلم الذي يستحق النقاش، لما يحتويه من جدية في المعالجة الدرامية، ومن جمالية في صوغ المشاهد والعلاقات النفسية الناجمة عن الحرب، قصي صاحب مباديء، أستاذ جامعي، وأحمد الأحمد يدرك طبيعة العمل جيدًا، كمحترف لديه نحو 77 عملًا، أغلبها مسلسلات تليفزيونية، بينما هو هنا يحصل على أول بطولة سينمائية، تضاهي حضوره التليفزيوني القوي، وتؤكد وعيه بالتمثيل كلعبة وحيلة إبداعية تقتنص من الحياة لحظة تصنع الحكاية.
الفيلم هو هذه اللحظة المفتوحة على الضياع الذي عاشه السوريين في سنوات الأزمة، حتى صار ظهرهم إلى الجدار، كما عنوان الفيلم، وكما الجملة المقتبسة من كتابات محمد الماغوط، حيث لا سند لهم غيره، سواء كان الجدار أو كلمات الشاعر الشهير، التي تشكل النقطة الخامسة البارزة في الفيلم، ليس بوصفها لأحد الرموز الثقافية السورية، وإنما لأنها أشبه بتراتيل الوجع التي يتلوها (عبد المنعم عمايري) متقمصًا شخصية الماغوط، في حالة تجمع بين الحزن والسخرية لرجل لم يستطع أن يتحمل ما حدث في عدرا، وصار مجرد جسد بلا عقل أو وعي، خسر عائلته بالموت، لكن الموت في حالته كما قال الماغوط:" إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى .. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء ..".
أما النقطة السادسة الأخاذة، فهي التصوير والموسيقى، ثمة حضور بصري مثير رغم الوجع، الصورة تحاذي الحكاية وتحمل دلالات عدة، بما يكشف عن جهد واضح وتعاون بين المخرج ومدير التصوير ناصر ركا في رسم المشاهد قبل تصويرها، مثل هذه النبتة التي تظهر على يسار الكادر في الصحراء الموحشة، كأنها تتحدى الموت على خط تماس، كذلك تتجول موسيقى إياد حنا بين تفاصيل الفيلم، سواء مقطوعته الخاصة، أو عبر سيمفونية صلب المسيح التي أعيد توزيعها، في الحالتين توجد بها شحنة من الشجن ممزوجة بالإثارة والفضول، موسيقى متقنة ومنسجمة، تشحذ الصورة بتلون الإيقاعات المقترحة من قبل المؤلف الموسيقي.
وفي النهاية نحن أمام فيلم يتمتع بميزات عدة، فنيًا وجماليًا وتقنيًا. إختار مخرجه الأسلوب الأصعب في إنجاز عمل متمهل، يفسر حالة الفرد السوري، في لحظة مواجهته واقعه الجديد، وثقافته الجديدة الناجمة عن الحرب، هذا غير العلاقة بالموت والذاكرة.
يُمكن القول إن "الظهر إلى الجدار" يشكل علامة إضافية في سينما سورية تنغمس أكثر في عالم إنساني بتفاصيله وهواجسه المتأثرة بالحاضر، سينما تصبو إلى تقديم الجديد بما يحقق فعالية وحضور في الصنيع الثقافي العربي، لا يعني هذا أنه فيلم لا مثيل له في السينما السورية والعربية، إنما تكمن أهميته كواحد من أفلام جديدة تخاطب الحساسية الإنسانية للفرد، بلغة درامية وفنية بديعة وأخاذة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة