في إطار خطة الخداع الاستراتيجي لحرب أكتوبر المجيد شاركت قرى مصرية فى نجاح هذا الانتصار العظيم، فليست قرية (الخطاطبة) بالمنوفية - بحسب الفيلم الوثائقي (عن قرب.. خطة الخداع ) الذي أنتجته المتحدة للخدمات الإعلامية، وأذيع أول أمس في الذكرى 48 لانتصارات أكتوبر، هى وحدها التي شهدت مشروع الحرب، بل إن هنالك قرى أخرى غيرها كان لها أدوار عظمى في خطة الخداع الاستراتيجي كقرية (شكشوك) بالفيوم التي شهدت بروفة العبور أيضا، وكانت أول ضربة جوية من (عرب الرمل)، وقرية (الجلاء) التي هزت غرور الصهاينة بالسويس.
فيلم (عن قرب.. خطة الخداع ) نجح في كشف عدد الأسرار التي ماتزال حبيسة الذاكرة المصرية من خلال عرض بعض تفاصيل ما حدث في الأيام العصيبة التي سبقت الحرب، كما جاء على لسان مقاتلي حرب أكتوبر 1973 الذين تحدثوا عن أهمية قرية الخطاطبة ومنطقة الرياح التوفيقي التي كانت جزءًا من خطة العبور الاستراتيجي، فقد قال المقاتل علي عطية، خلال لقائه بالفيلم الوثائقي إن عبور الساتر الترابي كان في غاية الصعوبة وكان يحتاج إلى قنابل ذرية، لافتا إلى أن وتيرة المناورات والتدريبات زادت مداها في عام 1972، مؤكدا أن الرؤية العامة للحرب من خلال القيادة السياسية كانت واضحة، لأن ما يتم تجنيده لا يتم تسريحه، وأن الجنود في انتظار ساعة الصفر.
وأكد أن قرية الخطاطبة تم اختيارها لأنها منطقة مشابهة للتيار المائي لقناة السويس، متابعًا: (منطقة مشابهة بالكربون)، لافتًا إلى أنها منطقة جبلية مختفية عن أنظار الجميع، موضحا أهمية التدريب في مكان لا يعرفه الجميع، وأشار إلى أن هدف القوات المسلحة هو رفع الكفاءة القتالية للجندي المصري بدنيا وعسكريا، مؤكدا على أنه كان يتم فرد الكباري البرمائية في زمن قياسي لا يتعدى 5 دقائق مع عبور الدبابات والجنود من خلال القوارب المطاطية حتى تم الوصول للنتيجة المنشودة في الوقت المطلوب.
ونستطيع القول بأن الفيلم أظهر أن خطة الخداع الاستراتيجي سجلت العسكرية المصرية نموذجا يحتذي به في المعركة علي أرض الجبهة، حينما قهرت العدو الاسرائيلي في نصر أكتوبر 1973 وتباري الجنود في مختلف الأسلحة لتقديم أفضل مالديهم، وإثبات قدراتهم القتالية دفاعا عن الارض، حيث ساعدت حرب المعلومات والخداع الاستراتيجي علي رسم ملامح النصر قبل بدء المعركة، وسطرت قصص خداع العدو علي أيدي المخابرات المصرية في نصر أكتوبر حروفا وكلمات لتبقي في ذاكرة التاريخ ترويها الأجيال، ومازالت أسرار الانتصار الذي حققه الرئيس الراحل محمد أنور السادات بدهائه وحنكته تتوالي حتي اللحظه، فقد سجلت الخطة أكبر مفاجآت الحرب وإنجازا ضخما خططت له المخابرات المصرية وشاركت فيه القيادة السياسية وعناصر المخابرات فى الداخل والخارج وحتى فى داخل إسرائيل وذلك للتغطية على استعدادات مصر للحرب ولإيهام العدو بأن الوقت مازال مبكر جدا بالنسبة للمصريين حتى يخوضوا حربا.
وشهدت قرية (شكشوك) بمحافظة الفيوم هى الأخرى بروفة العبور، بل كان لها دورا بارزا في أحداث حرب أكتوبر المجيدة، وبالتحديد من خلال بحيرة قارون، حيث وقع اختيار قوات البحرية خاصة، سلاح المدرعات والمشاة لاختيار تدريبات عبور قناة السويس فى حرب أكتوبر عام 1973، فقد أجرت بروفة كاملة على عبور قناة السويس من خلال المجرى المائي للبحيرة والذى يتشابه موقع قناة السويس، كما كان ينبغي أن يشير إلى تخصيص مطار قويسنا بصحراء قرية (عرب الرمل) في المنوفية لإيواء جناح الطيران العراقي في إقامته في مصر ولهذا تم إخلاء المطار من كافه الأمور التي تخص القوه الجوية المصرية، وفي نهاية مارس سنة 1973، وصل من العراق السرب المقاتل التاسع والعشرون، والسرب المقاتل السادس وبلغت مجموعات طائرات الهنتر العراقية التي وصلت مصر 20 طائرة استقرت في مطار عرب الرمل بقويسنا بمحافظة المنوفية.
ربما أراد فيلم عن (عن قرب.. خطة الخداع) الاستغراق أكثر في خطة الخداع الاسترتيجي كي يفهم الشباب الحالي كيف كانت بطولة وذكاء وفطنة مقاتلي مصر قبل 48 عاما، لكني أرى أن (المتحدة للخدمات الإعلامية) صانعة الفيلم فتحت شهيتنا لتوثيق قرى مصرية أخرى شاركت في خطة الخداع الاستراتيجي، وغيرها شهدت بطولات نادرة ينبغي أن تسجل، ومن ثم فإنني أقترح على الشركة أن تقوم من الآن وحتى 6 أكتوبر 2023 (الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر) بعمل تجربة توثيقية أكثر عمقا من فيلمها - الذي جاء على عجل - كي يسلطوا أضواء كاشفة على بعض القرى التي شهدت على أرضها بطولات عسكرية نادرة مثل قرية (أبو عطوة) بالإسماعيلية.
فالزائر لها يمكنه أن يدرؤك أن هذه المنطقة شهدت أعنف معركة للدبابات في العالم خلال حرب أكتوبر 1973، ولن يستشعر الأطفال الذين يمرون يوميا من أمام الدبابات المنتشرة على جانبي طريق عزبة الدبابات وهم في طريقم لمدارسهم أن المكان كان مقبرة لدبابات القوات الإسرائيلية، وذلك الساري الذي يحمل أسماء لضباط وجنود هم من دفعوا أرواحهم ثمنا ليمنعوا تقدم القوات الإسرائيلية ويحموا مدخل الإسماعيلية، فالمكان شهد أحداث ووقائع عسكرية هامة معروفة باسم (معركة الدبابات) بمنطقة أبو عطوة، والتى وقعت يوم 22 أكتوبر، وتعد إحدى المعارك الفاصلة فى حرب أكتوبر، حيث تمكنت المجموعة 39 قتال بقيادة الشهيد ابراهيم الرفاعى من صد هجوم القوات الإسرائيلية بقيادة شارون ومنعتهم من الإستيلاء على الإسماعيلية.
وفي إطار رصد البطولات التي وقعت على أرض قرى أخرى، ألا تستحق قرية البتانون بمحافظة المنوفية أن تتجه إليها عين الكاميرا باعتبارها موطن البطل الأول في حرب أكتوبر، الذى أطلق عليه أعدائنا (النحيف المخيف) على لسان رئيسة وزراء إسرائيل (جولدا مائير)، ففي منزل عائلة المشير محمد عبد الغنى الجمسى بالقرية، تمت كتابه خطة حرب أكتوبر بيد المشير في كشكول ابنته، وعاش المشير فى فيلا والده مع أخيه عبد المجيد بالقرية، وبمجرد أن تطأ قدماك الناحية الشرقية من القرية التي قطنها الجمسى، ترى الجميع يشير إلى منزله بما فيهم الأطفال، الذي يتخذونه رمزا للبطولة المصرية وقتل المعتدين، حسب قولهم، فكلما ذكر اسم الجمسى أمام هؤلاء الأطفال قالوا عنه: (ده بيت البطل بتاع الحرب).
ثم ألا تدرك عين الكاميرا أيضا، كيف شهدت سماء قرية (شاوة) التابعة لمركز المنصورة بالدقهلية مذبحة للطائرات الإسرائيلية فى حرب أكتوبر، وقد وقعت في 14 أكتوبر 1973، وأحداثها تدور بمحاولة القوت الجوية الإسرائيلية تدمير قواعد الطائرات الكبرى بدلتا النيل، في كل من طنطا والمنصورة والصالحية، لكي تحصل على التفوق في المجال الجوى، ما يمكنها من التغلب على القوات البرية المصرية، ولكن بعزيمة وإصرار القوات الجوية المصرية تصدوا لها في اليوم ذاته، وتعد أكبروأطول معركة جوية بعد الحرب العالمية الثانية، وبذلك أصبح يوم 14 أكتوبر عيد للقوات الجوية المصرية.
وأيضا من منا ينسى أن قرية (الجلاء) في الضفة الشرقية لقناة السويس شهدت معركة المزرعة الصينية) التي نشبت بين القوات المصرية والإسرائيلية في 15، 16 أكتوبر 1973، وانتصرت القوات المصرية بواسطة عناصر من الجيش الثاني المصري بقيادة المقدم محمد حسين طنطاوي، وترجع تسميتها بالمزرعة الصينية إلى القوات الإسرائيلية حيث أطلقوا عليها هذا الاسم، بسبب وجود أحرف صينية على مضخات هذه المحطة الزراعية. كما ترجع أهمية المزرعة استراتيجيا لوقوع الطريق المؤدي إلى أبو طرطور على مرمى إطلاق النار من المزرعة.
كما سيظل اسم قرية (بئر عديب) محفورا في تاريخ العسكرية المصرية بحروف من نور، فقبيل السادس من أكتوبر بعدة ليال كان مخططا أن تدفع الكتيبه 143 صاعقة بعرباتها برا وتحت جنح الظلام من منطقه تمركزها في الجبل الأحمر بالقاهرة إلى جهة غير معلومة للقوة، وكانت هذه المنطقة تقع خلف جبل عتاقة (بئر عديب) المشرف على مدينة السويس، ثم يتم تجميع الكتيبة هناك ليلا يوم الخامس من أكتوبر مع التمويه الجيد والانتشار وعدم التحرك نهارا أو ظهرا حتى لا تبدو أى شواهد يمكن أن يلاحظها العدو، دعمت الكتيبة بعناصر من المدفعية الخفيفة الحديثة التى أدخلت لأول مرة، ولم يعلم العدو عنها شيئا وكذلك بعناصر من المهندسين والكيميائين والإشارة وطاقم طبى من الجراحين.
وصلت الكتيبة للمنطقة المحددة في (بئر عديب) ونفذت الانتشار والإخفاء والتمويه الجيد، ولم يعلم أحد حتى الآن ما هى العملية وهل هناك عمليات أخرى أم لا، أم هو مجرد تدريب كعشرات المرات السابقة حتى كاد الرجال يجزمون بأن العملية لن تتم؟، وفي صباح السادس من أكتوبر شعر الجميع بأن هناك سيارات تتحرك من القناة في اتجاه القاهرة وتحمل الجنود في فسحة وجنود آخرون ينشرون ملابسهم في الشمس ويلعبون الكرة وقد عرف بعد ذلك أن هذا كان جزءا من خطة الخداع الاستراتيجى أحسن تنفيذها ونجحت في تضليل الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية.
وتشير قائع التاريخ العسكري إلى أنه بين خطوط النار المشتعلة فى حرب أكتوبر 1973، تسربت المدرعات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس وتحديدا في قرية (جنيفة)، أرض جديدة كسبتها إسرائيل قد تحسن من شروط التفاوض بالنسبة لها فى زخم الرصاص المصبوب والنابالم المحبوس ودانات المدافع ودك الدشم وهدير الطائرات، خليط من الكلمات العربية والعبرية وجه بها المجندون سكان قرية (جنيفة) بالسويس، لاستخراج (وثائق إقامة إسرائيلية) بدلًا من هوياتهم المصرية ولكنهم رفضوا وكان آرييل شارون قائد القوات اللى دخلت السويس قد أنشأ قاعدة مؤقتة فوق جبل جنيف، وظلت (جنيفة) البلدة التى هاجر عنها أهلها فى قبضة قوات الجيش الإسرائيلى منذ معركة (ثغرة الدفرسوار) وحتى انتهاء كافة مباحثات الكيلو 101، الأسابيع التى احتلت فيها القوات الإسرائيلية السويس تكرر مشهد تهريب أو إخفاء أهالى القرية للجنود المصريين العالقين فى المنطقة والمتخلفين عن كتائبهم.
ويعد ما حدث على أرض قرية (الفردان) واحدة من أساطير المقاتل المصري، فقد وقعت المعركة في القرية في 8 أكتوبر، ودارت بين فرقة الجنرال الإسرائيلي (أدان) وفرقة العميد حسن أبو سعدة، وقد قام (أبو سعدة) قائد الفرقة الثانية مشاة بالجيش الثاني بصد الهجوم المضاد الذي قام به لواء 190 مدرع الإسرائيلي، وتدمير كافة دباباته واسر قائد إحدى كتائب اللواء وهو العقيد عساف ياجوري، وفي وسط المعركة اندفعت الدبابات الإسرائيلية لاختراق مواقع (أبو سعدة) في اتجاه كوبري الفردان بغرض الوصول إلى خط القناة، وكلما تقدمت الدبابات الإسرائيلية ازداد أمل (أدان) قائد الفرقة التى يتبعها لواء (نيتكا 190 مدرع ) في النجاح، وكانت المفاجأة أن الدبابات المعادية كان يتم تدميرها بمعدل سريع بنيران الدبابات المصرية والأسلحة المضادة للدبابات والمدفعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة