للدكتور يوسف إدريس - رحمه الله وطيب ثراه - كتاب رائع أصدره عام 1984 بعنوان (أهمية أن نتثقف ياناس)، جاء فيه: (جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعلا صاحب مقام رفيع، كان احترام الثقافة والمثقفين جزءا لا يتجزأ من قيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة (أفندي أو أسطى)، أو بمعنى حقيقي أستاذ، وهذا الحين من الدهر كان مستمرا طوال حياة الشعب المصري حين كان المثقف في العصور الوسطى هو الشيخ أو مولانا أو سيدنا، ومن نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة في عصر محمد علي، ومن رفاعة رافع الطهطاوي إلى محمد عبده وخالد محمد خالد، تلك الكوكبة من العقول المضيئة التي ظل مجتمعنا ينظر إليها كما ينظر إلى مصادر الضوء تنير له وجوده وحياته ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة).
وكأنه يطل برأسه من تحت التراب ليصف لنا حالة تراجع القراءة فى زمن التكنولوجيا وعصر الإنترنت الذى طغى على كل شيء، وأصبح الكاتب (خاصة الدرامى) بعيدا تماما عن أحوال الناس في وقت أصبحت فيه الدراما هى المصدر الرئيسي للمعرفة والثقافة لجيل من الشباب أصبح يشاهد أكثر مما يقرأ، ومن ثم يلزمه أعمال سينمائية ومسرحية وتليفزيونية تستند إلى رؤية ثقافية تناسب شعب في أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا، فنحن بحاجة ماسة للتركيز على القيم التي تعنى بالاحترام الذي يحظى به (حكماء زمانهم) من الفلاحين الذين تبدلت حياتهم، وهو ما يتطلب من كاتبي الدراما تحديدا الاحتكاك الكافي بالحياة في القرى والنجوع والحارات التي تحظى باحترام لا يمكن للإنسان أن يخطئه مستعينا بأمثالنا الشعبية المصاغة بمنتهى الحكمة، بدلا من حياة التشتت الدرامي والضياع التي نعيشها حاليا.
ماذا حدث فقلب أمورنا رأسا على عقب، حتى أصبحت كلمة (أفندى) تقال للسخرية، تذكر من باب التوبيخ و(التريقة)، وكلمة ثقافة يتحسس لدى ذكرها البعض، وأصبحت كلمة مثقف وكأنما هى شيء لا يطاق؟، ماذا بالضبط حدث؟، ليس فقط للمواطنين وإنما حتى للقيادات الفكرية والفنية القائمة على صناعة الدراما والفنون عامة، فـ (أهمية أن نتثقف يا ناس) -بحسب الراحل الكبير (يوسف إدريس) - تكاد تساوي صفرا ومعنى هذا أنهم لا يقرءون، وإنما يتلقون المعرفة سماعا وربما من أمهاتهم وخالاتهم فقط.
نعم! ماذا حدث؟!.. كان كل شيء يسير على ما يرام، فالثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة، بل هى أساس مكمل بالضرورة للتعليم؛ فتعليم بلا ثقافة لا يتعدى خلق كائنات ميكانيكية لا تدرك أهمية أن نتثقف يا ناس، بل حتى هذه الحرف بدون عقل يحتوي الحد الأدنى من الثقافة اللازمة للمواطن، فالعامل أو الفلاح يصبح عاملا معوقا في نفس صميم حرفته أو صنعته، فإذا كان التعليم هو التدريب على المهارات سواء كانت يدوية أو عقلية، فالثقافة هى تدريب العقل نفسه على السيطرة على تلك المهارات، وهذا ما ينبغي أن يتوفر في أعمالنا الدرامية التي تعكس قضايا ومشكلات يعيشها المواطن.
الثقافة ليست ترفا عقليا، ولكنها ضرورة بشرية، تماما مثل الخبز والحرية، فبدون ثقافة يستحيل الإنسان إلى حيوان آكل شارب نائم متناسل؛ إذ الذى يصنع الإنسان والذى يفرق بين الإنسان العظيم والتافه هو الكم المضاف إلى عقله ليس فقط من معلومات، وإنما من قدرة على ترتيب هذه المعلومات، بحيث يستطيع الإنسان في النهاية أن يعتنق فلسفة خاصة به يزاول بها حياته ووجوده، ويسعد بها نفسه ومواطنيه، بل إنه بانعدام المحصول الثقافي للإنسان تصبح أية دابة أحسن منه، فهو دونا عنها مزود بعقل لا بد أن يعمل، وإذا لم يعمل في اتجاه صالح فلا بد أن يعمل في اتجاه خاطئ وأحيانا إجرامي، وهو ما نراه من قيم درامية تعد بمثابة وسيلة للهدم، على عكس جوهر الفن الذي الأصيل.
فى دراما اليوم: (فتح مخك يا أخي، فوت)، والطبقة المتوسطة بطبيعة تشكيلها وتكوينها طبقة متمردة تخاف ولا تختشي، هوايتها الخروج على القانون، والتنافس الرهيب الذي يسود بينها، بطبيعة تكوينها، يجعل الأنانية عندها هى القاعدة والانفلات هو القانون؛ ولهذا فالدول حتى الرأسمالية منها تسن القوانين الباترة لتنظيم حركة هذه الطبقة ومنع بعضها من الطغيان على بعضها الآخر.
ولنا في سير الأقدمين العبرة والعظة في عبارة (أهمية أن نتثقف يا ناس)، فقد تنبهت ثورة يوليو بعد سنوات من قيامها إلى أهمية الثقافة في حياة الأمة الجديدة، وبدأت في تكوين شركات قطاع عام للسينما وهيئات للمسرح والكتاب وأكاديمية للفنون، وما كادت تلك المؤسسات تقف على أقدامها حتى تكفلت نكسة 67 وما تلاها من أزمات بإغلاق أبوابها أو كادت، وهكذا بقيت روح هذا الشعب الثقافية وديعة غير محافظ عليها كلية في أيدي القطاع الخاص الذي أحال المسرح إلى كباريه، وأحال مسلسلات التليفزيون إلى وسيلة لإنقاص وزن العقول والاستخفاف بها، ومات الكتاب وماتت المجلات الثقافية والعلمية، وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس، وتحول جنون التناسل إلى مواسير هائلة الضخامة تصب على البنية الأساسية الضعيفة في مجتمع اليوم الاستهلاكي إلى حد الجنون.
ولكن السؤال هو: هل فعلا ليست لدى حكوماتنا إمكانات ثقافية متاحة لترفع بها المستوى الثقافي لشعبنا، خاصة أن الدولة أصبحت شريكا رئيسيا في عمليات إنتاج الثقافة والفنون المسموعة والمرئية؟
إن التليفزيون وحده في ظل الزخم الفضائي الحالي يكفي في عام واحد أن يرفع مستوى شعبنا الفكري والروحي والثقافي بما يعادل عشر سنوات من التربية والتعليم، ومؤسساتنا، تقريبا كل شكاوانا الخاصة بالإنسان سببها أننا تحولنا إلى مجتمع غير مثقف، مجتمع ليس به صفوة قائدة محترمة تتمسك بالقيم وتدافع عنها وتدعو إليها، مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلاما وخمولا من السماء الملبدة بالغيوم.
لدينا إمكانات النهضة التي تتحقق حاليا بطريقة غير مسبوقة في كل مراحل حياة المواطن المصري، لكن يلزمنا أن يتولى أمر ثقافتنا وفنوننا أناس ذوو همة من المثقفين الحقيقين من أصحاب الخيال الخلاق
الإنسان المصري خلال الحقبة الأخيرة قد بدأت تتراكم حوله وداخل عقله كثير من المشاكل الصغيرة جدا.. باختصار أن تفعل أي شيء في مصر، كل ذلك بحاجة إلى روح جديدة في الدراما تتوازي تماما مع الجمهورية الجديدة.
نعم نريد أعمالا درامية وسينمائية ومسرحية حقيقية تعبر عن جوهر الشعب المصري، فالضجة في شوارعنا تلك التي تنفذ إلى أسرة نومنا وحجراتنا تعمي عيوننا وآذاننا عن أن ترى وتسمع أو تستمع، وقد يستخف بعض الناس بما أقول ويتساءل عن (هيافة) هذه المطالب الحادة العاجلة، ولكني متأكد تماما أنها الإجراءات الأولى التي لا بد منها كي تتوقف الضجة الشديدة الداخلية والخارجية التي نعانيها، بحيث يسود شبه سكون نستطيع خلاله أن نفكر وأن نرى حتى نرى ماذا علينا أن نفعله لنحل المشاكل الكبرى بالفن والثقافة الحقيقية التي تحفز على الوعي التنمية التي تناسب أجواء (الجمهورية الجديدة) التي دشنها الرئيس السيسي قبل شهور.
نعم وألف نعم يا سادة الإعلام والدراما المصرية، فلم يجتهد الإعلام والفن في إرساء ثقافة التغيير سوى بوضع عبارة (الجمهورية الجديدة) على يسار الشاشات التليفزيونية.. رحم الله يوسف إدريس المبدع والمثقف الموسعي.