المدينة كانت تتوق إلى هذا الحدث، ليس إلى شكله المبهر فقط، وإنما لما يتبعه من بشارات، الأقصر التي خلت سنوات عدة من خطوات السائحين، وتراص فيها البشر وعربات الحنطور كقطع الموزاييك وسط هوس التأويلات ورصد الاحتمالات الكثيرة، وهم يحاولون اقتناص فرصة عمل أو زبون:"مركب يا بيه" أو "كاريتة يا هانم"، تُبعث من جديد، فإعادة إحياء طريق الكباش، طريق الكواكب الفرعونية بين معبدي الأقصر والكرنك، والاحتفال الكبير لم يكن مجرد تكوين شكلي مبهر، بل اللحظة التي تعيد تشكيل المشهد، بداية نسق كبير لتفعيل الأقصر كمدينة سياحية ومنطقة تكون هي مصدر أساسي لصناعات تلائم طبيعتها الخاصة وتخرج الشباب الأقصري من دائرة الإحباط وخيبة الأمل والوقوف على الكورنيش.
إنها اللحظة التي تنقذ الأقصر وناسها من متاهة ضاعوا فيها السنوات الماضية، حيث كان الارتجال هو مفتاح الحياة ونسقها؛ فلا خطط ولا مسار يتلمس وضوحه من خيوط الشمس أو يبحث عن مصادر أخرى للحماس، المدينة الجميلة حاصرها الارتجال، لولا أملًا تعوا خلفه لكسر ظلال الخوف في المسافة بين انحسار السياحة والأزمة الاقتصادية، الأمل في منطقة صناعية تعتمد على مصادر البيئة وتراثها وتهزم غول البطالة، ومرسم دولي يعيد ترتيب التفاصيل في مدينة الجمال والرسم والنقوش، وربما دار للأوبرا ترد روح الفن وتستفيد من المكان.
الأعين التي تطلعت إلى الاحتفال الكبير بالأمس، كانت تفتش عن الروح خلف الحجر، تغوص في أغوار الثقافة المصرية الأصلية وكنوزها، وفي ذات الوقت تتشبث بأبناء وأحفاد قادرين على مد الخط مع الأجداد، مثل هؤلاء الصغار الذين صادفتهم في البر الغربي، يفترش الأرض وينحتون الحجر، تنطلق أيديهم في حفر هامش أبيض أو أسود، حسب نوع الحجر؛ ليصبح فيما بعد كتلة، وجه أو جسد أو رمز فرعوني مُستلهم من روح المكان ويحملت حكاياته. حالة تستدعي فكرة إحياء مرسم الأقصر الذي أنشيء في الاربعينيات من القرن الماضي، حيث كانت الأقصر قبلة للرسامين ورواد الفن التشكيلي وفيها يعيدون تشكيل الطبيعة في لحظات من التوحد تصنع أبجدية فارقة.
الأحفاد يعيشون في كنف الأجداد، يتمرغون في تراب التاريخ ولا يتعاملون مع المكان على أنه أطلال، يأتي الغرباء ليرموا عليها السلام ثم يرحلون، لعل هذا ما أدركه الفنان محمد ناجي منذ الوهلة الأولى، حين أقام في قرية القرنة التي منحته الهدى، ليبصر تاريخه وحاضره من زاوية مكان هو في حد ذاته عابر للحكمة والمنطق، ويفهم أن من يمر هناك ويكتفي بإلقاء السلام على الحجر دون البشر، فإنه يحرم نفسه من الجمال، على هذا الأساس خرجت لوحاته، "مشهد من جبل طيبة" و"البركة المقدسة" و"معبد الكرنك" و"طريق الكباش"، وخرجت أيضًا فكرة المرسم، تخرجت أول دفعة من مراسم الأقصر في منتصف الاربعينيات، إلى مرسم الأقصر كان يتوجه الفنانون من كل صوب عبر منح دراسية أو من خلال المجهود الفردي يحملون شغفهم المسبق بسحر المكان وغموضه، حامد ندا، سيد عبد الرسول، صلاح طاهر، غالب خاطر، كامل جاويش، كمال النحاس، حسن عثمان، محيى الدين طاهر، ممدوح عمار، يوسف فرنسيس، ناجى كامل و.. غيرهم،
المدينة هي متحف مشرع الأبواب، والحياة في الأقصر حقيقية، كل شيء يكمل مهمته، الشروق والغروب، النيل والجبل، البر الشرقي والبر الغربي، التاريخ والحاضر، التماثيل والبشر في الشوارع والبيوت، كل التفاصيل ربما تثير الهيبة في البداية، لكنها الدليل والإشارة التي تمنح الخيال وفك الألغاز والاستلهام من المكان الفريد، أثر المكان لا ينفصل عن بشر عابرون في الحضور والغياب، فالهوس بالتاريخ الراسخ في كل جهة والذي يصادفك أينما وليت وجهك في الشارع والمعابد والبيوت على الجبل، الحياة في حضن الموت، أطوار غرائبية تخص الأقصر وحدها، بالضبط كما ترى المثلث العجيب لمسجد وكنيسة ومسلة فرعونية في معبد الأقصر، صورة مذهلة تخرج عن إطار التأويلات التقليدية وتبرز سطوة طيبة وسحرها، إنه الوضوح الذي يفيض عن الحد كما في النيل شديد الزرقة.
الأمر أعمق من المشاعر السطحية لنزهة عابرة بين الآثار.. الآثار ليست أطلال محنطة، فهنا بلد التاريخ والفن، وهو أمر يثير الهيبة والرهبة ويحتاج إلى نقلة تعيد إلى الفن بهائه وتعبر عن امتدادنا وتواصلنا الحقيقي مع عظمة الأجداد، نقلة لا تتناقض مع جوهر الإنسانية وتكتفي بالشكل واللون وتهجر الموضوع.
على أية حال، فإنه بنظرية بسيطة جدًا نجد أنه لا مفر من تكريس الفن ليكون جسر العبور إلى مشهدية ثقافية جديدة، إلى مجتمع يطور روحه كما شكله، ويهتم بناسه وحجره، وما يحدث في الأقصر الآن هو البداية في مدينة واجهت تحديات كبيرة سابقًا، وتتنافس حاليًا مع البذخ الحضاري لماضيها، ما يجعل جديدها قطبًا لمعادلة الإبهار والريادة، ويستطيع المغني أن يغني مبتهجًا: على أرضها اتمختر يا اسطى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة