حالة من الجدل في ظل انعقاد مؤتمر دولى حول الديمقراطية، مع انطلاق شهر ديسمبر المقبل، برعاية الولايات المتحدة، في ظل تجاهل صريح للعديد من القوى الدولية التي باتت مؤثرة حول العالم، على رأسها روسيا، بينما لم تتلقى السلطات الصينية هي الأخرى دعوة للمشاركة في الوقت الذى دعت فيه واشنطن إقليم تايوان، وهو ما يمثل استمرارا لسياسة الاستفزاز الأمريكي تجاه بكين، وهو ما يمثل محاولة صريحة للعودة إلى زمن "المعسكرات"، والذى كان بمثابة السمة الحاكمة للنظام العالمى، إبان الحرب الباردة، منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضى، وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى، ليتحول بعدها العالم إلى معسكر واحد، يخضع للهيمنة الأمريكية.
ولعل توقيت المؤتمر، والذى يتزامن مع مرحلة مخاض يشهدها العالم، في المرحلة الراهنة، يمثل اعترافا ضمنيا بخسارة الهيمنة الكلية، على النظام الدولى، في الوقت الذى تصاعدت فيه قوى أخرى، من شأنها مزاحمة واشنطن، ليصبح هذا المؤتمر بمثابة محاولة لإرساء قواعد "الرؤية" الأمريكية خلال مرحلة الصراع الدولى الجديد، في مجابهة قوى، طالما لاحقتها الاتهامات من قبل ما يسمى بـ"المعسكر الغربى"، بالديكتاتورية طيلة عقود طويلة من الزمن، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول مواقف القوى الأخرى، ليس فقط من المؤتمر، ولكن أيضا تجاه القضية المطروحة، في ظل معطيات تبدو مختلفة جذريا عن تلك التي فرضت نفسها في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وخلال مرحلة الحرب الباردة.
الديمقراطية، رغم مرور العقود الطويلة الماضية، تبقى رهانا أمريكيا بامتياز، فى الوقت الذى يشهد فيه العالم تغيرا كبيرا، سواء فيما يتعلق بالظروف الدولية، أو حتى ما يمكننا تسميته بـ"هوى" الشعوب، وهو ما يمكننا ترجمته عبر العديد من المشاهد التي سادت العالم في السنوات الماضية، منها اندلاع المظاهرات في العديد من العواصم الغربية، والتي وصلت إلى حد الدعوة إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة، وهو ما يمثل أحد أوجه الانقلاب على ما آلت إليه الصناديق الانتخابية، بينما اتجهت بعض الشعوب نحو اختيار شخصيات بدون مرجعية حزبية أو بوجوه حزبية مستحدثة، وهو ما يمثل انقلابا أخر على فكرة "الأحزاب"، وكلاهما (الصناديق والأحزاب) يمثلان أبرز أجنحة مفهوم الديمقراطية الذى أرسته واشنطن قبل أكثر من 70 عام، ليكونا أساسا تستمد منه الأنظمة شرعيتها الدولية، وأحد أهم الذرائع التي استندت عليها القوى الدولية للتدخل في شؤون الدول الأخرى.
فلو نظرنا إلى أبرز الشخصيات التي وصلت إلى قصور السلطة في العديد من دول العالم، نجد أن ثمة شخصيات دون مرجعية حزبية، على غرار الرئيس التونسى قيس سعيد، ورئيس السلفادور ناييب بوكيلى، بينما كان بعضهم من ذوى الخلفيات الحزبية الهشة، على غرار دونالد ترامب، والذى يمثل عهده، رغم انتمائه للحزب الجمهورى، انقلابا على إرث العديد من أسلافه الجمهوريين، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذى اعتلى عرش الإليزيه، قبل الذكرى الأولى لميلاد حزبه "الجمهورية إلى الأمام"، وهى الاختيارات التي تعكس حالة أعم وأشمل من "التمرد" على مفهوم "الديمقراطية"، والذى ارتبط بحقبة معينة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي ارتبطت بالأساس بحقب استعمارية، توحشت فيها الأنظمة الديكتاتورية، في العديد من الدول حول العالم، وخاصة في أوروبا الغربية.
بينما جاءت أزمة تفشى كورونا، لتطرح تساؤلات جديدة حول مستقبل الديمقراطية في العالم، وفى القلب منه في دول الغرب، في ظل نجاحات كبيرة للقوى التي طالما وصفوها بـ"الديكتاتورية"، في فرض قبضتها الحديدية على شعوبها، من أجل احتواء الوباء، مما ساهم في تحقيق أهدافها في الداخل أولا، قبل أن تمد يدها لشعوب أخرى، لم تفلح حكوماتها في التعامل مع الزيادات الكبيرة في أعداد المصابين، لتقدم أنظمة تلك الدول نموذجا يمكن استلهامه، بوضوح في التعامل مع نوعية تبدو جديدة من الأزمات الدولية، تتجاوز النطاق المحدود للصراعات التقليدية، سواء من الناحية الزمنية أو الجغرافية، ليتحول الوباء إلى فرصة مهمة لتقدم تلك القوى "أوراق اعتمادها" لقيادة النظام الدولى، من خلال قدرتها على التعامل مع التهديدات الجديدة للسلم والأمن الدوليين.
وهنا يصبح الرهان الأمريكي على الديمقراطية بمثابة "مقامرة" محفوفة المخاطر، خاصة وأن المفهوم، بمعناه التقليدي، بات "ملفوظا" من قبل قطاع كبير، من الشعوب حول العالم، وهو ما بدا في الاحتجاجات تارة والاختيارات الانتخابية تارة أخرى، بينما تبقى أزمة كورونا هي القشة المسمار الأخير في "نعش" المصطلح السياسى البراق، الذى طالما تباهى به الغرب على العالم لسنوات طويلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة