- الكاتب كان من صفوة رجال العصر فى القرن الـ20 وبسببه نشرت مجلة الصباح مقالات الشاعر صالح جودت وهو شاب صغير ظنا منها أنه "الكاتب الكبير"
- القاموس يثبت أن تاريخ وفاة الكاتب المعروف خاطئ وأن دار الكتب والعديد من المراجع تداولت معلومة مشكوكا فى صحتها
لك هنا أن تشم رائحة زمن غير الزمن، لك هنا أن تقرأ وتتأمل وترى وتسمع، لك هنا أن تغيب عن الزمان والمكان لترى كيف كانت الحالة الثقافية المصرية قوية عفية، وكان رجالها مبهرين، واسعى الثقافة، متعددى المواهب، لك هنا أن تعانق التاريخ بكامل جماله، فأمامك الآن كتاب نادر، لكاتب كان يملأ الدنيا ويشغل الناس، لكنه توارى عن الأنظار والأسماع وراح ضحية تشابه الأسماء، فقد كان هو الأصل وغيره الفرع، فأصبح الفرع أصلا، والأصل منسيا.
بين يدىّ الآن كتاب نادر - كما ذكرت - وكاتبه هو الكاتب الكبير صاحب الباع الطويل فى المجتمع المصرى سياسيا وأدبيا وقانونيا، صاحبه هو عضو الجمعية الملكية للاقتصاد والتشريع وأحد مؤسسى «الرابطة الشرقية» التى كانت من أهم الجمعيات الفكرية والاجتماعية فى القرن الماضى، وعضو الجمعية الجغرافية المصرية، وعضو الجمعية الملكية للاقتصاد والتشريع، وكان من طليعة المفكرين المصريين الذين استقوا علومهم من أكبر العلماء وأجلهم، وأصبح علما من أعلام القانون والقضاء فى مصر، بالإضافة إلى ذلك كان - رحمه الله - من الشخصيات موسوعية الثقافة، ساعدته فى هذا نشأته فى بيت سياسى من الدرجة الأولى، وإتقانه للغات الأجنبية وتعمقه فى دراسة اللغة العربية وتاريخها، وفى الحقيقة فإن معلوماتى عن هذا الرجل كانت «هينة» قبل عثورى على هذا الكتاب، وكانت تتلخص فى وجود رجل آخر اسمه «صالح جودت» قبل الشاعر المعروف صاحب «نشيد الفن» ومئات الأغانى الأخرى، وأحد رواد مدرسة أبولو الشعرية، لكن ما إن بدأت فى تقليب صفحات الكتاب واستطلاع ما به حتى شعرت بأنى أقف على أعتاب عدة مفاجآت بحثية سعيدة، وأنى على وشك خوض مغامرة تحقيقية جديدة بها الكثير من الفوائد والكثير من الاكتشافات، وفى الحقيقة لم يخب هذا الشعور.
ما هو هذا الكتاب؟
أعتقد أنه من الواجب الآن قبل الخوض فى تفاصيل الاكتشاف أن أوضح ماهيته وتفاصيل العثور عليه، فالكتاب ببساطة عبارة عن «قاموس» كامل من الألف إلى الياء جمع فيه الكاتب الكبير «صالح جودت» أشهر الألقاب العربية لأشهر الشخصيات المؤثرة فى التاريخ، وأوضح معناها وأشهر من تسمى بها، ومن وجهة نظرى فإن هذا الكتاب يحتل أهمية كبيرة للباحثين، فهو كتاب مرجعى بلا شك، كما أنه ممتع، لأنه يحوى العديد من الوقائع الطريفة والألقاب الغريبة، وإذا ما نظرنا إلى تاريخ إنشائه، فسنجد أنه من الكتب «الرائدة» فى هذا المجال لأنه جمع الكثير من الألقاب المتداولة فى عصره وما قبل عصره، جامعا بين المصادر العربية والمصادر الأجنبية، وقد استغل الكاتب معرفته باللغات الأجنبية، والفرنسية على وجه التحديد، للاستزادة بما كتبه المستشرقون فى هذا المجال، فخرج الكتاب بصورة أكثر إحاطة وبلغة قريبة من الواقع وهو ما يضفى على الكتاب أهمية وجاذبية.
قصة العثور على «القاموس»
مثل غالبية الباحثين عن تاريخ مصر المفقود، أحتفظ بالعديد من الصداقات غير التقليدية مع بائعى الكتب والجرائد القديمة، لعلى أظفر منهم بقصاصة مجهولة أو صورة نادرة تكمل مشهدا ظن البعض أنه كامل، ومن هذه المصادر حصلت على العديد من الوثائق المهمة والصور التى أحدث نشرها صخبا كبيرا وقت نشرها، مثل نشر الوثائق التى أكدت أن الذى رشح نجيب محفوظ لجائزة نوبل هو الدكتور المصرى عطية عامر وليست أى جهة أخرى، ونشر 10 صور نادرة للموسيقار الراحل زكريا أحمد، وتحقيقها وهو الموضوع الذى حصل على جائزة الصحافة المصرية فى 2019، وغيرها الكثير، وذات مساء اتصل بى أحد بائعى هذه الكتب مؤكدا أنه يحمل لى «مفاجأة سعيدة» رافضا أن يدلى بأى تفاصيل أخرى، وقد عودتنى التجربة أن أتحسس جيبى كلما سمعت كلمة «مفاجأة سعيدة» وعلى الفور ذهبت إلى صديقى تاجر الكتب والمكتبات، فوجدته وقد أحضر لى «كيسا بلاستيكيا أسود» يحتوى على بعض الأوراق، وقبل الخوض فى محتويات «الكيس» أؤكد هنا أننى لم أستطع التأكد من أن جميع محتويات «الكيس» من مصدر واحد أم من مصادر مختلفة، كما أنى لم أجد ما يكشف عن مسار هذا الكتاب منذ أن فرغ منه كاتبه فى أربعينيات القرن الـ20 حتى وصل إلى يدى الآن.
محتويات "الكيس"
يحتوي الكيس على مظروف أبيض به ورقة من جريدة الوفد عدد السبت 1 مارس 2003، حيث أفردت الجريدة صفحة كاملة لقصيدة الشاعر الكبير "عبد الرحمن الأبنودي" بعنوان "بغداد" التي يقول فيها "آدي العراق منطرح ع المقصلة بناسه/ مستني حكم الغريب الجاي بمداسه" وقد كتبت هذه القصيدة في أجواء الحرب على العراق التي شنتها أمريكا في عام 2003 ، وأحدثت وقتها دويا كبيرا في الأوساط السياسية والثقافية على حد سواء، وعلى ما يبدو أن الذي احتفظ بهذا كان محبا للشعر مؤمنا بالعروبة فأراد الاحتفاظ بهذه القطعة الشعرية الثائرة تخليدا لهذه الذكرى، وخلاف القصيدة بالـ"كيس" ملف بلاستيكي آخر –أخضر اللون- يحتوي على مادة مواد صحفية بجريدة الوفد أيضا تخص الوفدي الراحل "سيف الغزالي" منها خبر وفاته عن عمر يناهز الـ"89" عاما في العدد الذى حمل رقم 5226 والذي يذكر أنه كان عضوا بمجلس الشعب عن حزب الوفد في عام 1984 وأنه قدم العديد من الأسئلة والاستجوابات لمجلس الشعب، ولديه العديد من المواقف الوطنية المشرفة، كما يذكر تعرضه للاعتقال أكثر من مرة بسبب هذه المواقف، إضافة إلى هذا نعي الدكتور نعمان جمعة رئيس حزب الوفد الأسبق لـ"الغزالي" وحوار مطول أجراه الكاتب الصحفي عمرو عبد السميع معه نشر في 13 نوفمبر 1989.
خلط تاريخى ظالم
خلط تاريخى يتحول إلى لعنة
المفارقة هنا لا تكمن فى موقف طريف كما يذكر بشير عياد أو فى اضطراب يسير فى مقال أو نبذة مختصرة، لكنها للأسف امتدت إلى المؤسسة المصرية العريقة وبالتحديد إلى دار الكتب المصرية التى تعد مرجعا معتمدا للمعلومات البحثية، فقد خلط واضع دليل دار الكتب بين الاسمين أيضا، وإن سألت عن كتب صالح جودت، ستجد عشرات الكتب الموضوعة تحت هذا الاسم، وكلها مدونة كالتالى (صالح جودت، صالح بن إسماعيل جودت بن صالح 1875 - 1945) وكما هو واضح فقد كتب تعريف الكاتبين باعتبارهما كاتبا واحدا، والأنكى من هذا هو أن واضع هذا الأرشيف وضع لهما تاريخ ميلاد واحد وتاريخ وفاة واحد أيضا، والغلبة هنا لصالح جودت «القانونى» الذى تدل الكتب التى ذكرته على أن هذين التاريخين يخصانه، وهو أمر سأتطرق إليه لاحقا بالبحث والتحقيق، فى حين أن صالح جودت الشاعر ولد فى 1912 ومات فى 1976، كما يذكر معجم شعراء البابطين.
عمه أم لا؟
بالعودة إلى مقال الشاعر الراحل والمؤرخ الفنى بشير عياد، نجد أنه ذكر أن جودت «القانونى» هو عم جودت «الشاعر» وهو أمر حاولت أن أستدل عليه كما سبق ولم أتمكن، فلم أعثر على أى إشارة فى تاريخ «جودت» القانونى، تشير إلى أنه عم «جودت» الشاعر، أو أخو «كمال الدين» الشاعر أيضا، فوالد صالح جودت، الشاعر، هو الشاعر كمال الدين جودت الذى وجدت له ترجمة وافية فى معجم شعراء البابطين، ولم يذكر فيها أى صلة قرابة بينه والقانونى الكبير، برغم أن «جودت» القانونى وقتها كان ملء السمع والبصر، وكان أحد أكبر رجال الدولة، حيث عمل قاضيا فى المحاكم المصرية وسكرتيرا لوزير العدل فتحى زغلول، وأصبح بعد ذلك محاميا كبيرا يشار إليه بالبنان، كما أنى وجدت فى ترجمة كمال الدين جودت، ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول الزعم بأن جودت القانونى «عم» جودت الشاعر، فقد ذكر المعجم أن كمال الدين «ولد فى إسطنبول، وتوفى فى القاهرة، وقد هاجر إلى مصر بصحبة والده عام 1896، ثم استوطنها بقية حياته، وهو والد الشاعر صالح جودت» وهو ما يطرح المزيد من الأسئلة!
القول الفصل
بحثت كثيرا فى الكتب والمراجع التى تذكر «صالح جودت، القانونى» لعلّى أجد ما يشير إلى أخوته بكمال الدين لكن لم أجد، وكما سبق فقد فشل سعيى فى التوصل إلى أى معلومة من المؤسسات التى مر عليها الاثنان، وفى النهاية عثرت على ما يثبت صلة القرابة ويؤكدها وليس هذا فحسب بل يجيب على كل الأسئلة السابقة ويسد ثغرات القصة برمتها، وكان هذا فى كتاب الدكتور اللبنانى فوزى عطوى (1939) صالح جودت الشاعر والإنسان، المنشور فى دار الفكر العربى للنشر ببيروت عام 1987، وفى هذا الكتاب يسرد قصة تسمية صالح جودت الشاعر بهذا الاسم، فيقول إن والدته - تركية الأصل - كانت تريد تسميته عبدالرحمن، تيمنا باسم أبيها، وبالفعل أطلقت عليه هذا الاسم، ووقتها كان أبوه «كمال الدين» يعانى سكرات الموت، فلم تجد ما يمنعها، سرعان ما أفاق الأب بعد أسبوع من ولادة ابنه واستعاد صحته، وحينما علم بأن زوجته أطلقت على ابنه اسم عبدالرحمن ثار وغضب، خاصة أن زوجته لم تستشره فى هذا الأمر، فغير اسم ابنه وأطلق عليه اسم «صالح» وهذا اقتباس من الكتاب حرفيا «وذلك تيمنا باسم إنسان عزيز عليه وهو شقيقه المستشار صالح بك جودت، الذى كان نجمه آنذاك ساطعا فى ميادين القضاء والفكر وفى عالم التأليف القانونى والحقوقى والأدبى».
مفاجأة وصدمة
كما طالعنا، فإن دار الكتب المصرية قد وضعت مؤلفات الكاتبين «القانونى والشاعر» تحت اسم واحد، وتحت تاريخ ميلاد ووفاة واحد، وفى تلك القائمة كانت فى انتظارى مفاجأة سارة، وهى أن كتاب «الألقاب والكنى» الذى عثرت عليه لم يكن مدرجا بها، وهو ما يعنى أن الكتاب لم ينشر، وأنه ظل مخطوطا طوال 74 عاما، تتناقله الأكف وتستضيفه أرفف المكتبات، ينتظر أن يدخل إلى مرحلة الطبع والنشر، لكن هذا ما لم يحدث طوال هذه المدة، مع العلم أن القاموس كامل تام، من الألف إلى الياء، وقد وضع له الكاتب الراحل والقانونى الشهير صالح جودت مقدمة شارحة لأسباب تأليفه، والمصادر التى اعتمد عليها، كما وقّع عليها باسمه وتاريخ انتهائه من الكتابة، وهو أمر لا يحدث إلا عند الانتهاء من الكتابة تماما، وأغلب الظن أن القانونى الراحل وضع هذا القاموس فى نهاية حياته، ولم يمهله القدر فرصة لتقديمه بنفسه إلى المطبعة، فعهد به إلى أحد معارفه ليقوم بهذه المهمة ولم يتمكن، وربما كان هذا الكتاب مجهولا بين أرفف مكتبة الراحل الكبير وظل على عهده إلى أن أتى اليوم الذى بيعت فيه المكتبة، وما فيها دون أن يمس، ويمكننا أن نتخيل هنا عشرات السيناريوهات التى يمكن أن تكون قد حدثت منذ وضع البصمات الأخيرة على القاموس وحتى وصوله إلى يدى، وكما ذكرت فقد كانت مفاجأة سارة لى أن الكتاب غير مدرج بقائمة كتب «صالح جودت» بدار الكتب، ولكن تلك المفاجأة السارة للأسف أتت مصحوبة بصدمة قاسية كادت أن تعصف بالاكتشاف من أساسه.
أين الخطأ وأين الصواب؟ القاموس أم دار الكتب؟
دائما ما يحلم من يجرى تحقيقا صحفيا أو بحثيا بإغلاق أبواب الأسئلة المشروعة، لكن أن يصطدم الكاتب بسؤال قد يهدم تحقيقه من الأساس فهذا أمر غير محبب على الإطلاق، وهذا للأسف ما شعرت به حينما فرغت من مراجعة قائمة كتب جودت بدار الكتب وتأكدت من عدم وجود هذا القاموس بينها، ثم انتبهت فجأة إلى التاريخ الذى وضعه كاتب البطاقة التعريفية لدار الكتب يؤكد أن القانونى «صالح جودت» توفى فى العام 1945، بينما يذكر جودت أنه فرغ من كتابة القاموس فى أكتوبر 1947 / ذو القعدة 1366، ويبدو أنه ارتبك فى البداية فكتبها 1346ثم عدلها لتكون 1366، فى حين تذكر «دار الكتب المصرية» أن الكاتب توفى فى عام 1945، فإن كانت دار الكتب صحيحة، فإن هذا يقدح فى أصالة هذه النسخة التى بين يدى برغم قدمها الواضح وأثر الزمن الذى ترك بصمته عليها، وإن كان القاموس صحيحا فإن هذا ما يثبت خطأ دار الكتب، فأين الصواب؟ وأين الخطأ فى هذا؟
بداية جديدة؟ أم نهاية مؤسفة؟
أمسكت بالقاموس بين يدى وأنا أتساءل: هل انتهى السعى عند هذه النهاية المؤلمة؟ أم تُرى قد كتب لهذا التحقيق دور أخطر من مجرد الكشف عنه؟ فلو كان التاريخ الذى كتب على هذه النسخة صحيحا فهذا يعنى أن كل المراجع التى ذكرت تاريخ وفاة صالح جودت، القانونى، غير صحيحة، وأن هذا القاموس سيكتسب قيمة تاريخية وبحثية أكبر من مجرد الكشف عنه، لأنه سيتحول إلى وثيقة تثبت خطأ تاريخ الوفاة المعروف، وكان لا بد لهذه الحيرة من نهاية سريعة توقف هذا السيل من الأسئلة، فخطرت لى فكرة رأيتها كرمية الزهر، لو أصابت سأكمل البحث، ولو لم تصب لأوقفت السعى فورا، وهذه الفكرة باختصار هى مطابقة التاريخ الهجرى بالتاريخ الميلادي، فإن كانا متطابقين فمعنى هذا أننى أسير على الدرب الصحيح وإن كانا غير متطابقين، فسأوقف البحث غير مأسوف عليه ولا علىّ.
كتاب صفوة العصر
لعبة الاحتمالات
هذا التطابق بين التاريخين (الميلادى والهجرى) جعلنى أكثر ميلا إلى أن يكون تاريخ وفاة «جودت» المعروف غير صحيح، خاصة أن مسألة اضطراب تواريخ الميلاد والوفاة كثيرة ومتكررة فى تاريخنا الأدبى والفنىو فكم من ملحن عظيم أو مفكر كبير أو مطرب شهير تاه المؤرخون فى تحديد تاريخ ميلاده على وجه الدقة، وقد أفاض الدكتور أحمد مجاهد فى تحقيق تاريخ ميلاد أمير الشعراء أحمد شوقى، وقد أفرد فى هذا فصلا كاملا فى كتابه «خارج السياق» المنشور فى دار أطلس للنشر، لكنى برغم هذا التطابق بين التاريخين الميلادى والهجرى، وبرغم معرفتى بمسألة اضطراب توثيق الميلاد والوفاة فى تاريخنا، حاولت البحث عن دليل قاطع يحدد على وجه الدقة تاريخ وفاة «جودت»، وللأسف باءت كل محاولاتى بالفشل، ولم أجد جوابا قاطعا فى المؤسسات الحكومية أو فى دار المحفوظات أو حتى فى الجمعيات التى اشترك فيها «جودت» مثل الجمعية الجغرافية أو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع.
من أين أتت البلبلة؟
انتشار معلومة تاريخ الوفاة المشكوك فى صحتها هذه يؤكد أن لهذا الخطأ أصلا راسخا، ولهذا حاولت البحث عن مصدر هذه المعلومة فى كتب التراجم والسير التى احتوت على سيرة صالح جودت، فوجدت ضالتى فى كتاب «الأعلام» لـ «الزركلى»، حيث ترجم لصالح جودت فى الجزء الثالث ص 189 و190 طبعة دار العلم للملايين وكتب سيرة مختصرة لحياته وحياة أبيه واضعا تاريخ وفاته وميلاده كالتالى: «صالح جودت (1292؟ - 1364 هـ؟ = 1875 - 1945 م؟»، غير أن «الزركلى» نفسه تشكك فى هذا التاريخ فوضع علامة استفهام أمام التاريخين، ولم يكتف بذلك فحسب، فقال فى ذيل الترجمة نصا: «ولم أظفر بتاريخ ولادته ووفاته، فقَدرتهما من الحوادث، وقد لقيته فى القاهرة مرارا».
غير أنى لم أستعجل إعلان الوصول
كانت هذه الجملة الأخيرة التى كتبها «الزركلى» مثل طوق النجاة بالنسبة لى وللقاموس، كما أنها أعفت الكثير من المؤسسات والمراجع من الحرج، وعلى رأسها دار الكتب المصرية، فسبب هذه البلبلة كتاب «الأعلام» لـ«الزركلى» نفسه، الذى يعد مرجعا أساسيا لكل واضعى التراجم والفهارس فى العالم العربى، وهو نفسه تشكك بها، وعملا بالعرف المعمول به فى مثل هذه الحالات، وضع عليها علامة استفهام، وعلى ما يبدو فإن أحدهم لم يؤمن بأهمية علامات الترقيم أو جهل دورها فحذفها.
الوثيقة «وثيقة»
تطابق التاريخين الميلادى والهجرى ووجود اسم الكاتب فى دليل مصر الصادر سنة 1950 وتشكك «الزركلى» فى كتاب «الأعلام» حول تاريخ الوفاة، شواهد مجتمعة تؤكد أن الوثيقة التى بين أيدينا صحيحة تماما، وأن الكاتب لم يمت فى العام 1945 وأن هذه الوثيقة تكتسب أهمية كبيرة حيث تثبت أنه توفى بعد أكتوبر 1947 وإن كنت أتوقع أنه توفى بعد هذا التاريخ بوقت قصير، بدليل أنه لم يمهل وقتا ليصدر هذه المسودة فى كتاب مستقل، خاصة أنه وضع اللمسات الأخيرة عليه وحدد بدايات الصفحات وما يكتب فى صفحة منفصلة وما يلحق بالصفحات الأخرى، والآن بعد هذه الرحلة، لنا أن نلقى بجزء من هذا الكتاب المهم الذى يقع فى 75 صفحة من القطع الكبير، والمرتب أبجديا من حرف الألف وحتى حرف الياء، الذى يحتوى على الكثير من المعرفة والكثير من المتعة أيضا، فنتعمق فى فهم الذهنية العربية، ونستفيد من معرفة الألقاب العربية غريبها ومتداولها، فنرى مثلا فى الكتاب إلماما بالكثير من الألقاب الشهيرة مثل «الأباصيرى» «أمير المؤمنين» أو «إمام الحرمين»، شارحا لها ومبينا أسباب إطلاقها على أصحابها، والمواقف التى ارتبطت بها، كما نرى ألقابا على قدر من الطرافة المثيرة للدهشة، مثلا لقب «أبله» الذى يقول فى شرحه: إنه أطلق على الشاعر «أبوعبدالله محمد بن بختار، ولد ببغداد، وتوفى بها سنة 579 هجرية، قيل إنه لقب بالأبله للسذاجة، وخالفهم ابن خلكان فقال: إنه من ألقاب الأضداد، أطلق عليه لفرط ذكائه، أما لقب «أبوالدوانيق» فيقول فيه: «إنه أطلق على أبى جعفر المنصور، ثانى خلفاء بنى عباس «136 - 158هـ» عرف بها لبخله، والدوانيق جمع دانق والدانق عشر الدرهم، وقد اختلف فى المنصور، فقال السيوطى: إنه كان يحاسب عملاءه على الدانق «ولذلك لقب بأبى الدوانيق»، غير أن المسعودى يقول: «إن المنصور كان كريما، ولكنه كان حريص المال لا يفرط فى أقله»، ومن غريب الألقاب أيضا التى جمعها «جودت» لقب «أفنون»، الذى يقول فيه: إنه أطلق على الشاعر صريم بن مشعر التغلبى لقوله
مقدمة الكتاب
الحمد لله ذي الأسماء الحسنى، والصلاة والسلام على نبيه الهادي لخير الدين والدنيا، وبعد،
فقد كان للكنى والألقاب شأن عند العرب في الجاهلية والإسلام، عرفت بها طائفة من رجال السيف والقلم وغيرهم وطالما غلب اللقب والكنية على لما اشتهر على الاسم فطمساه حتى لرائك ذكرته دون ذكر اللقب والكنية اللذين اشتهرا بأحدهما صاحبه لما عرفه أحد وكثيرا ما كان العرب يطلقون الكنبة واللقب على الرجل إشارة إلى ما اشتهر به من صفة جسمه كأبي الآذان لكبر أذنيه أو صفة خلقية كخليع لخلاعة أو للدلالة على مهنة كالزجاج، أو على قومه كالبرامكة أو على نشأته كاليمني أو على حادثة اشتهر بها "كذي الهجرتين" وقد يكون اللقب أو الكنية للمدح، كما في |ذي الحلم" أو للذم كما في "لطيم الشيطان" ألخ
حتى قيل
" وَقَلّمَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ إلاّ وَمَعْنَاهُ إنْ فَكّرْتَ فِي لَقَبِه
وكانت قريش تلصق بأعدائها كنى وألقابا تهزأ فنهى عن ذلك القرآن الكريم وجاء في سورة الحجرات قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"
وقد اهتم بجمع الألقاب والكنى وشرحها طائفة من علماء المشرق والمغرب فمن الأولين ابن دريد وقد ذكر في الوشاح خمسين شاعرا لقب كل منهم بشعر قاله، ثم الكلبي ثم أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي المتوفي سنة 245 للهجرة، صاحب رسالة "ألقاب القبائل" ثم أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي المتوفي سنة 407 هجرية، ثم شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المتوفي سنة 852 هجرية ولكل منهما رسالة سمياها "ألقاب الرواة" ثم الإمام الحافظ جمال الدين أبي الفرج المعروف بابن الجوزي، من رجال القرن السادس الهجري، صاحب كتاب "كشف النقاب عن الأسماء والألقاب" ثم شمس الدين ابن أبي عبد الله محمد الدمشقي الشافعي صاحب كتاب "ذات النقاب في الألقاب"
ومن علماء الغرب كورجارتن الألماني 1837، وجارسيان دي تاسي 1854 وألبرت فيري الإنجليزي 1883 وبي بينار الفرنسي 1907، وقد ذكره في سياق الكلام لما اشتهر بلقبه أو كنيته كثير من كتب الأدب والتاريخ ككتاب الروضتين والأغاني والفهرست والكامل للمبرد ولسان العرب وتاج العروس وأمثال الميداني والمزهر للسيوطي والمستطرف ومعجم البلدان لياقوت الحموي ومعاني الأدب والوسيط ومجلة المشرق وفي الحاوي والفخري والبيهقي والتعلبي وابن الأثير وابن خلدون وابن خلكان والطبري والمسعودي والنواوي.
وقد جمعت بقدر المستطاع ما وصلت إليه من تلك الكنى والألقاب وأصولها ورتبتها حسب حروف الهجاء في شكل قاموس ليسهل البحث فيه والرجوع إليه.
والله ولي التوفيق.
أكتوبر 1947 ذوق القعدة 1366
صالح جودت
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة