إن الرغبة في التحديث حالة مزمنة لدى المثقف العربي منذ اتصاله بالعالم المتقدم في العقود الأخير، فهو لا يزال متعلقا بنموذج مثالي للتحديث في المجتمع، وقد وضع تصورا من هذا النموذج الذي يجمع بين آلة الغرب وعاطفة الشرق، ففي خضم هذه التحولات التي يعيشها العالم في الحقبة التاريخية الحديثة فإن هذا لا يفوتنا بأن المجال الموسيقي كذلك يوضع على مشارف الحداثة وعلاقة التراث بالواقع الفني أي بين النموذج الفني الغربي والتقاليد الفنية العربية، حيث تتضارب الآراء وتنقسم حسب الانتماءات من المدرسة القديمة المحافظة إلى المدرسة الحديثة والتي تساير التقدم التكنولوجي، حيث تعتبر أن هذا الأخير هو سبيل التطور وهو محاذاة للرقي الذي واكبه الغرب.
غير أن هذا الرأي يأخذ جانبا من التباين والمخالفة في الرأي مع التيار المحافظ المرتكز على مقومات الأصالة والتراث وهى فكرة يمكن لها أن تأخذ بالموسيقى العربية نحو التغريب وفقدان الطابع الصوتي والأدائي الخاص بتقاليد الممارسة الموسيقية العربية، لكن بالرجوع إلى ما خلفه الإبداع الموسيقي عند العرب فإن مسألة التضارب بين القديم والحديث ذات طرح قديم، فلقد جاء أن سئل إسحاق الموصلي عن لحنين في صوت واحد أحدهما له وثانيهما لمغن قديم، أيهما أفضل فذهب إلى تفضيل اللحن القديم عن لحنه، و على حد هذه المقولة يمكن أن تؤكد لنا على تعصب أهل الفن والصناعة الموسيقية في الفترة العباسية للقدماء ولا يلحقون بهم أحدا من أهل العصر وأن كان أفضل منهم صناعة وأجودهم أداء.
كلامي هذا في مناسبة انعقاد الدورة رقم (30) من مهرجان الموسيقى العربية هذه الأيام، والذي ينحاز في معظم حفلاتها نحو الأغنية الخفيفة المعاصرة، وربما هذا ما يوقعنا في شرك الانحياز الكامل للتغريب الموسيقى العربي، وفقدان الطابع الصوتي والأدائي الخاص بتقاليد الممارسة الموسيقية العربية، وذلك عبر ممارسات نسف القديم التراثي الجميل تماما لحساب الحديث الصاخب، وربما السبب في عدم المزج بين القديم يأتي خوفا من التيار المنافي للحداثة، والذي يجعل الموسيقى العربية تسير نحو الأعقاب وهذا الانغلاق يؤدي بها إلى الجمود والتحنيط وعدم مواكبة خصوصيات الجانب التقني للممارسة الموسيقية المعاصرة من حيث الشكل والمضمون، كما أن المحافظة على التراث بصفة مبالغ فيها يؤدي كذلك إلى عدم مواكبة الذائقة الموسيقية العربية للواقع الفني المعاصر.
لكن يبقى الأهم في المحاولة للتوفيق بين التيار الحداثي وعلاقته بالتراث من خلال الأخذ بما يمكن له أن يخدم مصلحة الإبداع الموسيقي العربي والسير به نحو عملية توازن بين خطاب الموسيقي عربي متمازج مع النموذج الغربي، وفي هذا الإطار لابد من ضرورة التوفيق بين التراث والتجديد وربما الأهم في نظرنا هى محاولة المبدع الموسيقي العربي في الأخذ من القديم ما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم، وذلك عن طريق إبراز أهم الجوانب التقديمية في تراثنا القديم وإبرازها تلبية لحاجات العصر من تقدم وتغير اجتماعي، ولكن جميع هذه المحاولات لا تعطي صورة عامة للتراث كله وإعادة بنائه طبقا لحاجات العصر، في حين أن المطلوب هو تطوير صورة التراث وتوسيعها حتى تكون هى روح العصر، وإعطاء نظرة متكاملة للتراث.
وهذا هو جوهر ما جاء تأكيدا على لسان (هنري جورج فارمر) في مداخلة قدمها خلال مداولات المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة (عام 1932) على أن الموسيقى العربية لا تستطيع أن تقف جامدة فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات تدفع الموسيقى العربية إلى التقدم للأمام، وعلينا حتى ما ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن نسلك طريقا يحفظ روحها الوطنية وطابعها لأن فقدانها ذلك الميراث يعد كارثة عظيمة، وعلى هذا الرأي فإنّه لا مجال للتعصب الفكري والفني.
والآن وبعد 89 عاما على مؤتمر الموسيقى العربية الأول، علينا أن نتذكر مقولة (فارمر) في أن نحرص على أن نسلك طريقا يحفظ روح الموسيقى الوطنية وطابعها لأن فقدانها ذلك الميراث يعد كارثة عظيمة، فلابد على المجتمعات العربية أن تتبنى الجانب الإيجابي للحداثة الذي يكون حافزا لتجنب التكرار والاجترار، وبالتالي يكون الانسياق في إنشاء خطاب موسيقي معاصر بمختلف أنماطه، لكن يمكن لهذا الجانب أيضا أن يمس من القيم والعادات والهويات واللهجات وبذلك تكون النتيجة الانفصال التام عن التراث وتصبح الحداثة وسيلة للانفصال، كما أن هذا الانفصال يمكن له أن يؤدي بالخطاب الموسيقي العربي (المستوى الثقافي) والمجتمعات العربية عموما إلى تفتح فكري غير ممنهج.
وهذا هو الحاصل تماما في غنائنا الحالي الذي لايخضع لمنطق أو عقل واع يمكن أن يمزج الأصالة بالمعاصرة في شكل جميل لا يمس بالذائقة العربية السليمة، جراء هذا التفتح الفكري غير الممنهج في الموسيقى، كما يحدث في مهرجان الموسيقى العربية الذي يرواح مكانه عاما تلو الآخر حتى خرج عن السياق المطلوب جراء إدارة لاتعي خطور الانحياز الكامل للأغنية الحديثة والإصرار على أسماء بعينها كما يحدث في حفالات المهرجان حاليا، فرغم كثرة عدد المشاركين ورغم جمال أصواتهم، وعذوبة شدوهم، لكنهم لم يقدموا جديدا لافتا لانتباه المستمعين!، فكل مطرب من المشاركين في العادة يغني أغنياته الخاصة مع أغنية لـ (أم كلثوم، أومحمد عبدالوهاب، أوعبدالحليم حافظ) أوغيرهم وكان الله بالسر عليم!، والملاحظة الجديرة بالانتباه هى تكرار أسماء المطربين المشاركين في دورات المهرجان كل عام مع تبديل اسمين أو ثلاثة فقط، علما بأنه معروف أن أي مهرجان محترم لايكرر أسماء المشاركين كل عام، وتجد أعوام طويلة بين أول وآخر مشاركة لأي مطرب تصل إلى عشر سنوات، وهذا يعطي للمهرجان تجدد وحيوية.
إن مهرجان الموسيقى العربية على مدار 10 سنوات يصبح عاديا جدا أن تجد أي مطرب قد شارك فى دورات كثيرة ومتوالية، إلى حد أن بعضهم أصبح المهرجان بالنسبة له هو (سبوبة) كل عام التى ينتظرها!، دون تجديد الدماء الغنائية، وربما يرجع ذلك لوجود قيادات بعينها في مناصبها لمدة تقترب من الثلاثين عاما، حيث هى التي تتحكم في الاختيارات وتفرض ذوقها الخاص، فضلا عن مجاملة صارخة لبعض الأسماء!، وهذا أدى إلى التكرار والملل، فضلا عن البعد تماما عن روح الأصالة والمعاصرة، وأدي ذلك أيضا إلى عدم الاستعانة بأسماء نجوم كبار فى العالم العربي مازلوا في قمة عطائهم الفني، فلم يفاجئنا المهرجان بنجوم كبار مثلا من السودان أو الجزائر أو المغرب أو اليمن أو غيرهم من الدول المحرومة من المشاركة في المهرجان لجهل إدارة المهرجان والمسئولين عنه!.
والحقيقة أنه يجب أن يترك المهرجان الحالي اسمه العريق ويقام تحت اسم آخر هو (ليال الأوبرا الجميلة)، وذلك بعد أن فقد هويته الموسيقية مؤتمره الذي كان يقام في الدورات الأولى، خاصة أن ما يقدم فيه من غناء حديث بعد أن تخلى عن التراث لحساب مجموعة من كبار مطربي مصر والعالم العربي المشهود لأصواتهم بالجمال والعذوبة، لكنه لا ينتمي لفكرة وهوية (مهرجان الموسيقى العربية) الذى أقامته وزارة الثقافة بغرض تنويري وتثقيفي، ألا وهو إلقاء الضوء على أساطين الطرب فى مصر والعالم العربي القدامي مثل (سلامه حجازي، الشيخ، عبده الحامولي، محمد عثمان، داوود حسني، إبراهيم القباني، درويش الحريري، محمد المسلوب، يوسف المنيلاوي، سيد درويش، الشيخ العفريت) وغيرهم، بحناجر مصرية وعربية عذبة الصوت تعيد تقديم هذا التراث بشكل معاصر كما فعلت فى المهرجان المبدعة (أنغام) من قبل في دور (قد ما أحبك زعلان منك) لمحمد عثمان بتوزيع جديد فحقق الدور نجاحا فاق كل خيال، وكما فعل مطربنا الكبير (علي الحجار) عندما أعاد بعض أدوار وتواشيح قديمة في كثير من حفلاته القديمة، وكذلك صباح فخري ولطفي بوشناق.
نتمنى على المسئولين عن المهرجان تخصيص دورات كاملة تقتصر كل واحدة على أحد أعمال تلك الرموز المصرية، أو أحد الرموز العربية، وذلك في إطار المزج بين الأصالة والمعاصرة، ولدينا المئات على مستوى العالم العربي الذين يستحقون أن تحمل دورة (مهرجان الموسيقى العربية) اسمه، فعلينا أن نتخيل دورة لـ (سلامه حجازي) ومجموعة من المطربين المشاركين مثل (هاني شاكر، علي الحجار، محمد الحلو، مدحت صالح، أصالة، أنغام، أمال ماهر، لطفي بوشناق، وائل جسار، مروان خوري، صابر الرباعي) وغيرهم يغنون أغنيتين أو أكثر لهذا العملاق أو غيره، بدلا من الغناء (لأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وفايزة، ووردة، ونجاة، ومحمد قنديل، وعبدالحليم حافظ)، لأن كل هؤلاء العظماء المعاصرين أغنياتهم لاتعتبر تراثا، كما انها موجودة وتبث باستمرار بأصواتهم من خلال الإذاعة المصرية، وبالتالي ليسوا فى حاجة لتعريف الجمهور بهم، خاصة أن المطربين يختارون الأغنيات المشهورة لهولاء العظماء، ولا يختارون الأغنيات المنسية.
ولعله يبدو ملحوظا طوال الدورات السابقة خلال العشر سنوات الأخيرة أننا لم نلمح أي مطرب من الذين شاركوا في المهرجان قدم أغنية مجهولة أو منسية لعمالقة الطرب المعاصرين، فكلهم يقدمون ما تبثه الإذاعة باستمرار، ويخشون الاقتراب من الأغنيات المجهولة لأنهم بالتأكيد لا يعرفون غير ما يسمعون!
أيها السادة المسئولين فى دار الأوبرا المصرية: أساطين الغناء القدامى الذين لا نسمع لهم شيئا في أي مكان، وأصبحوا في طي النسيان هم الذين يحتاجون معرفة الناس بتراثهم الأصيل، وبهذا يكون للمهرجان دور تثقيفي وتنويري، وأعتقد أن هذا هو دور وزارة الثقافة، ولنا فى غناء المطربة الكبيرة (سعاد محمد) لدور (أنا هويت وانتهيت) للشيخ سيد درويش، توزيع الموسيقار اللبناني (توفيق الباشا) عبرة وعظة، فلولا إعادة توزيع هذا الدور من جديد فى بداية السبعينات ما سمع أحد به، لأن النسخة الموجودة بصوت (سيد درويش) سيئة للغاية.
ولا ننسى أن ما تحمله المدرسة القديمة في طياتها من تراث موسيقي جاء كإرث من منطلق أعمال لعدة محدثين في تاريخ الموسيقى العربية أمثال الشيخ سلامة حجازي والسيد درويش المؤسسين لمدرسة المسرح الموسيقي العربي ومن سبقهم كذلك مثل عبده الحامولي، لذا فإن الحداثة هى مشروع لتراث المستقبل والتراث يمثل نقطة التقاء وتواصل مع الواقع المعاصر، وكما يمثل التراث منطلق لأعمال موسيقية حديثة تراعي مسألة الهوية الموسيقية العربية، حيث أن كل عنصر اجتماعي يمثل مظهر من مظاهر الحداثة البشرية وهى في طريق التقدم المستمر الذي بدوره يجمع صفة التثاقف على جميع الأصعدة.
ومما لا شك فيه أن كل تغافل عن كل ما هو يعنى بالثقافة العربية في عصرنا الحديث أمام التحديات التي تضع الهوية الثقافية في لقاء مباشر مع الغرب يصبح التساؤل عن كيفية مقاومة التيارات الغربية الدخيلة والتي لا تتماشى مع تركيبة المجتمعات العربية ولا تتلاءم مع الفكر الإبداعي العربي حيث أنها لا تعكس حقيقة ما يحتاجه المبدع العربي المعاصر للتعبير عن واقعه، لذا فإن الانتحال ينبغي أن يكون عامل إثراء للغة التقليدية (الموسيقية) لا عامل (تفقير) وهدم، ويجدر بالملحن بصرف النظر عن ثقافته العامة وعن موهبته الخلاقة أن يكون ملما بصورة عميقة بلغته الموسيقية ومدركا تمام الإدراك للغة الأخرى أو اللغات الأخرى التي يريد استعمالها لإثراء تراثه حتى يتجنب بذلك كل نفور أو تناقض.