هناك طفل يواجه العالم القاسي، متحجر القلب، برهبة أولًا ثم بتمرد ومقاومة فطرية، هذه هي النواة الدرامية الأصلية للفيلم الروائي الطويل الأول" قدحة" أو "جدحة"، حسب العامية والدارجة التونسية، لمخرجه أنيس الاسود، المشارك حاليًا في مسابقة آفاق عربية بمهرجان القاهرة السينمائي، لكن، هل يمكن لنواة كهذه أن تحقق فيلمًا روائيًا طويلًا؟ باختصار وبساطة: نعم. لأن هناك رؤية سينمائية تجعل السؤال المتواضع يمتدّ على مساحة بيئة اجتماعية وثقافية وتربوية، وعلى ذوات محطّمة داخل حصاراتها المتتالية في الحياة والعيش والتفكير والمشاعر، وعلى مناخ إنساني قد يعثر على شبيه له في أمكنة جغرافية وتربوية واجتماعية أخرى.
إنه يتوغل أكثر فأكـــثر في ثــنايا الـــروح التونسية، هذا ما فعـــله أنيس الاسود في فيلم عنوانه يبدو عاديًا، إنه اسم يلقب به الصغير نبيل، موضوعه ومناخه العام، إنساني مفتوح على ثقافة وسلوك اجتماعي ناجم عن ضغوط اقتصادية. " ڨدحة" هو مسمى مرادف للشرارة الكامنة داخل طفل، يواجه غلظة الحياة بشراسة إما أن تخرج منه إنسانًا قويًا أو أن تهزمه وتقضي عليه.
في بداية الفيلم يطل علينا الصغير نبيل أو ڨدحة ورفاقه، فتية يمرحون على هامش حياة لا يعرفونها، لم يختبروها بعد، حتى يتعرض ڨدحة إلى حادث سير، يدخل على إثره المستشفى، وهناك تتلقى والدته مساعدة إحدى الأسر لتغطية مصاريف العلاج، كما توفر لهم مسكنًا ويصبح نبيل صديق بل أخًا لابنهم الوحيد أسامة، يبدو الأمر منذ البداية مثيرًا للتساؤل، وهو ما يكشفه تصاعد الأحداث، إذ يدرك ڨدحة سر اهتمام هذه الأسرة به ووالدته وشقيقته الصغيرة، فيتحول مساره رأسًا على عقب.
يعد الفيلم هو الأداء التمثيلي لبطله ياسين الترمسي، إذن فإنه ينطلق من زاوية لافتة تُظهر تعاونًا سينمائيًا مع ممثلين غير محترفين، أعمارهم صغيرة، لكن حماستهم للوقوف أمام الكاميرا كبيرة جدًا، أراد أنيس الاسود إذن، أن يروي فصلًا من التغيرات العنيفة في المجتمع التونسي، هذه التغيرات الناجمة عن ظروف اقتصادية تجعل الرجال يهربون خارج البلاد في هجرات سرية، كما والد الصغير "نبيل" بطل الفيلم، وتضطر أمًا أن تبيع كلية ولدها، ومن هذه الزاوية القاسية، اختار المخرج صغاراً كي يلتقط، من خلال عيونهم وبراءتهم وعفويتهم، بعضاً من هذا التحول الخطر الذي أصاب المجتمع في مقتل.
ممثلون صغار يؤدون أدوارًا أساسية في فيلم تصوغ حكاياته وتفاصيله من الذاكرة الفردية أو الجماعية، قرّر أنيس الاسود مع شريكته في الكتابة الممثلة المسرحية والمحامية التونسية المعروفة شامة بن شعبان، أن يكتبا سويًا سيناريو " ڨدحة" بما يتلاءم مع وجود ممثلين صغار، لأنه عزم على أن يدخل الحكاية من خلال صغير هو ضحية الظروف المجتمعية، ربما لإدراكه أن سرد تفاصيل صعبة ومؤثرة، يُمكن أن يتقبّلها الجمهور أكثر من تقبلهم السرد نفسه متحورًا حول الكبار وحدهم، فرسائل عدّة قد تصل إلى المتلقي بعفوية أكبر إذا كان الممثلون صغارًا، وعيهم الطفولي يتفتح على الدنيا، حتى يصطدموا بقسوة هذه الدنيا وبما تحويه من أوجه للتمزق الاجتماعي والإنساني.
أمضى أنيس وقتًا طويلًا قبل أن يختار ياسين الترمسي ويجد فيه النموذج المطلوب، يقول:" فتّشت كثيرًا عن صبي يستطيع أن يمنحني هذه المشاعر التي أردتها، مشاعر صغير تتبدل حياته من تجربة عاشها، من حادث يتعرض له، إلى أن يكتشف السر الخطير وأثره الكبير على تحوله من طفل مفعم بالحياة إلى طفل كسير، عصبي، عنيف، حتى رأيت ياسين في عينيه حنانًا، إنه شخصية شغوفة بالتمثيل، قدم دورًا بديعًا للغاية مع رفاقه، قابلت أكثر من ألف طفل في عمر ياسين، حتى وصلت إلى المجموعة التي اخترتها وعملت لهم تدريب على التمثيل، وتدريب رياضي على الرماية بالنبال لمدة أشهر".
يبدو أن الاسود مع الممثلين الصغار عرف كيف يجلبهم إلى عالمه، ويحولهم من مؤديين لأول مرة إلى الأداء الاحترافي ليحصل على اللقطات المناسبة وفي كيفية الحركة والنطق والسلوك.. حسنًا، إننا أمام فيلم فيه خمسة أطفال من 6 سنوات إلى 12 سنة، هو جزء من مشروع مخرجه المهتم بالطفولة، إنه يبحث مرارا عن سبل الوصول إليهم والتعامل مع عالمهم، لديه نحو 13 فيلمًا كلها تحكي عن الأطفال، منها: "الحصاد السحري"، "صباط العيد" عُرض في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية 2012، والحائز على أكثر من 30 جائزة، "صابة فلوس" الفائز بجائزة "المهر الفضي" في مهرجان دبي السينمائي الدولي، جائزة "أفضل فيلم" في مهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب، جائزة "كازوس الذهبي" في مهرجان ميشيجان الأمريكي، جائزة "القاهرة الذهبي" في مهرجان القاهرة الدولي.
هنا نعرف أن "ڨدحة" ليس المشاركة الأولى في مهرجان القاهرة، ونتأكد أنه خطوة أخرى على درب أنيس الاسود المكترث بقضايا الطفولة، منجم حكاياته وأسلوبه للاستماع إلى صغار لا يجدون من يهتم بهم، ويصنع لهم وعنهم سينما تعبر عنهم، في ظل غياب الإنتاج وكذلك المهرجانات الخاصة بهم، قد يكون هذا تفسير لحصوله مثلًا على الجائزة الوطنية لحقوق الطفل لسنة 2016 لمساهمته في نشر ثقافة حقوق الطفل والدفاع عن قضاياه من خلال فيلمه "صباط العيد"، لكن هناك سمة أخرى ندركها في فيلمه الروائي الطويل الأول، فغير تركيزه على المغزى من جملة جبران خليل جبران:" أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة"، فثمة صنيع بصري يًصور الفضاءات المفتوحة، ويغوص في عالم البسطاء بحيوية المحب وليس المتعالي، بدا ذلك في رسمه للشخصيات قبل الخوض في الحكاية، وإن كانت المشاهد الأخيرة اعتراها بعض من الميلودراما مرتفعة الوتيرة، لكن يمكن تجاوزها في إطار تجربة ثقافية وفنية متكاملة ترغب في صناعة جديد مختلف للسينما العربية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة