صوت شادية ينسل من محطة إذاعية:"أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد.. أمانة عليك أمانة لتبوس لى كل إيد.. حاربت فى بورسعيد"، كتبها اسماعيل الحبروك ولحنها محمد الموجي، تمجيدًا لأهل بورسعيد والفدائيين الذين كافحوا وجاهدوا العدوان الثلاثي البريطاني، والفرنسي والاسرائيلي عام 1956، الأغنية تراوغني في هذه اللحظة المفعمة بالانفعال بين الحاضر والماضي، بحساسية فنية وجمالية مستقرة في الوجدان والعقل، اللحظة التي تحتفل فيها مدينة بورسعيد بعيدها القومي الـ65، وتتوهج بشكل أو أخر خزائن الذاكرة بالحرب والمقاومة والنصر، لكنها أيضًا اللحظة التي تستدعيني للسؤال عن المنجز السينمائي لهذه الحرب، هل التقطتها السينما؟ هل وثقتها؟ هل اشتغلت عليها بما يتوافق مع واقعيتها الموزعة بين الهجوم والاجتياح وبين المواجهة والنضال، وبما يقارب ما بين الوقائع وسرد الحكايات؟
لاشك أن السينما تعاطت مع هذه الحرب بأساليب مختلفة، تحتاج إلى قراءات أعمق وأوسع من مقال، لكن هذا التعاطي قليل إلى حد كبير، ويعود في الغالب أن السينما المصرية في طرحها لموضوع الحرب عمومًا، ظل إنتاجها حتى وقت قريب ينقصه هذا التوازن بين الموضوع والصورة، حتى يكون هناك إنصاف ما؛ فهذا يبدو أن له علاقة بعدم الخبرة، خصوصًا أن السينما المصرية لم يكن لها سابقة في تقديم أفلام الحروب، سوى حروب السيوف والصحراء التي أنتجت متزامنة مع هذه الأفلام، وتتنوع ما بين الأفلام الدينية والغزوات التي تتناول ظهور الدين الإسلامي وقصصاً حدثت في كنفه، أو درامية تاريخية مثل "الصقر" (1950) إخراج صلاح أبو سيف، الفيلم الذي دار في أجواء بدوية عن ضرورة وحدة قبائل عربية مشتتة لمحاربة عدو يتسلل إليهم. وفيلم آخر مشابه يدور في حياة الصحراء عن شخصية المحارب الأسود الشهير "عنترة بن شداد" (1961) إخراج نيازي مصطفى، أو أفلام حربية تاريخية مثل "وإسلاماه" (1961) إخراج أندرو مارتون و"الناصر صلاح الدين" (1963) إخراج يوسف شاهين.
إذن، هي مهارة لم تؤتها كثيرًا السينما المصرية في هذه النوعية من الأفلام، فاتبعت من البداية انفعالاتها العاطفية في أفلام عن القضية الفلسطينية: "فتاة من فلسطين” (1948) إخراج محمود ذو الفقار، "نادية" (1949) إخراج فطين عبد الوهاب، "أرض الأبطال" (1953) إخراج نيازي مصطفى، "الله معنا" (1955) إخراج أحمد بدرخان، "وداع في الفجر"(1956) إخراج حسن الإمام، “أرض السلام” (1957) إخراج كمال الشيخ، وغيرها من أفلام جاءت فيها سيرة الحرب هامشًا لقصة حب غير مكتملة الأركان من الناحية الدرامية، سواء في تكوين العلاقات بين الشخصيات أو إطارها الشكلي؛ معارك فردية صغيرة لا تشكل شيئًا كبيرًا يعبر عن حجم المأساة والكارثة.
بل لم تقدم السينما فيلمًا حقيقيًا عن حرب أكتوبر، فالأفلام الستة الشهيرة لم تنصف حرب الساعات الست، ولم تقدم سوى مشهد أرشيفي للعبور ملحق بالفيلم على خلفية قصص حب هشة ومنقوصة، باستثناء "أغنية على الممر"(1972) إخراج علي عبد الخالق، "أبناء الصمت" (1974) إخراج محمد راضي، هي أفلام تمحورت حول بطولات متفرقة حدثت أثناء حرب الاستنزاف، تلك الحرب التي وسعت الدرب كي نتجاوز مطب النكسة ومهدت للعبور، الفيلمان حربيان بامتياز انطلقا من واقع محبط إلى مصير غامض، واحتويا على تفاصيل إنسانية ومعاناة بشرية عاشها أبطالهما، وتبعهما بعد سنوات طويلة"حكايات الغريب"(1992)، "الطريق إلى إيلات" (1993) إخراج إنعام محمد علي، "يوم الكرامة" (2004) إخراج علي عبد الخالق، وأفلام أخرى لكننا هنا لسنا بصدد الرصد وإنما الإشارة.
حتى نصل إلى فيلم "الممر" (2019) إخراج شريف عرفة هو فيلم أخر عن حرب الاستنزاف؛ لكنه هذه المرة هو المعبر إلى الجهة الأخرى، من الهزيمة إلى النصر، من الظلام إلى النور، إجتاز معضلة وجود إنتاج ضخم يسهل صناعة مثل هذه النوعية من الأفلام، وخرج إلى النور بميزانية فاقت 100 مليون جنيهًا حسب ما صرح به منتج الفيلم هشام عبدالخالق، ما سهل إلى حد كبير العمل التقني الذي أداره المخرج شريف عرفة؛ مستعيناً بفريق عمل أمريكي لتصميم مشاهد الأكشن والمعارك الحربية، مركزاً على مهمة عسكرية وعرة لضرب معسكر للعدو في سيناء؛ حيث دارت الأحداث لساعتين والنصف تقريبًا، مختصرة رحلة تصوير استمرت ثلاثة أشهر في خمس مدن هي السويس، جنوب سيناء، أسوان، الاسماعيلية، القاهرة.
من هذه الخلفية الطويلة نوعًا نجد أن السينما المصرية في تعاملها مع حرب 1956، حاولت توثيق اللحظة بصور مختلفة، وإن لم تكن كثيرة كما ذكرنا سابقًا، فيطالعنا مثلًا فيلم " بورسعيد" (1957) تأليف وإخراج عز الدين ذو الفقار، وهو مثير لأكثر من سبب، فلم يحدث في تاريخ السينما العالمية أو العربية، أن عُرض فيلمًا روائيًا عن إحدى الحروب القصيرة التي شهدها العالم الحديث، بعد نهاية هذه الحرب بسبعة أشهر فقط غير هذا الفيلم، فيه ظهرت لأول مرة سينمائيًا أغنية باسم جمال عبد الناصر، وهي (أَمِمْ جمال القنال)، كما ظهر في أحد المشاهد خواجة يعيش في بور سعيد يردد: "عبدالناصر لازم يموت".
كان عبد الناصر هو من كلف فريد شوقي بإنتاج هذا الفيلم في مقابلة حضرها عبد الحكيم عامر وأنور السادات: "نريد منك القيام بعمل فني يروي قصة العدوان الثلاثي، خاصة في منطقة بورسعيد لرصد المقاومة الشعبية هناك" (مذكرات فريد شوقي في جريدة القبس)، وشرع في التصوير على الفور تحت القصف، مع مجموعة كبيرة من النجوم: هدى سلطان، ليلى فوزي، شكري سرحان، رشدي أباظة، حسين رياض، أمينة رزق، توفيق الدقن، زهرة العلا، أحمد مظهر، سراج منير، نعيمة وصفي، رياض القصبجي، نور الدمرداش، كمال ياسين، حسن حامد، محمد رضا، شاركوا في الفيلم الذي عرض في 8 يوليو عام 1957، أي بعد جلاء العدوان الثلاثي علي مصر في 23 ديسمبر 1956 بأقل من 7 أشهر، حيث استعرض الدمار الذي سببته القوات الغازية للمدينة، وناقش الفيلم في فكرته الرئيسية العدوان الثلاثي وبسالة المصريين في مواجهته.
قدم الفيلم الأغاني الحماسية التي أدتها الفنانة هدى سلطان ومنها أغنية "الله أكبر فوق كيد المعتدي"، ما يشير إلى حماسة الفيلم شكلًا وموضوعًا ليواكب اللحظة الحاسمة التي تواجهها البلاد بعد تأميم قناة السويس الذي أعقبه العدوان الثلاثي، فمن ناحية يوثق هذه اللحظة ولجرائم القوات الإنجليزية والفرنسية في بورسعيد؛ ومن ناحية أخرى يكون الفيلم من الوسائل التحفيزية للشعب، حيث تطوف حكايات البطولات التي قام بها أهل بورسعيد والمصريون الذين كانوا يتوافدون على المدينة للمشاركة في المقاومة والحرب.
بعد ثلاث سنوات من هذه الواقعة، جاء فيلم أخر هو "عمالقة البحار" (1960) إخراج السيد بدير، ليقدم صورة عسكرية في مواجهة العدوان الثلاثى على مصر، أبطالها القوات البحرية المصرية، ومن بينهم السورى جول جمال الذي تولى قيادة قاذفة طوربيد ويستشهد أثناء المهمة، كما كان تأميم قناة السويس والحرب والمقاومة محورًا بارزًا في فيلم الباب المفتوح (1963) إخراج هنري بركات عن رواية لطيفة الزيات التي ربطت بين تحرر المرأة وتحرر الوطن من خلال ليلى (فاتن حمامة) التي تعيش في أسرةٍ متوسطة، وتحاول أن تثور وتشارك في المظاهرات لكن يكبحها والدها بعنف ويعاقبها بشدة، فتبدأ رحلتها من أجل إيجاد ذاتها، وبين مشهد البداية حيث المظاهرات الشعبية ضد الانجليز قبل ثورة يوليو، والجنود المسلحون بالبنادق ثم الكفاح المسلح في مدن القناة، وبين المشهد الختامي تقف ليلى على رصيف محطة السكة الحديد تتابع المصابين القادمين من بور سعيد، قبل أن تقرر في النهاية اللحاق بالقطار الذي ينقل الفدائيين إلى بور سعيد وتفتح لنفسها بابًا جديدًا على الأمل.
بالتوازي قدمت السينما العربية بأسليب متباينة ملامحًا لحرب 1956، فنرى عبد الناصر يعلن تأميم قناة السويس في خطابه الشهير، بينما يستمع إليه الناس فى مقهى "أبو أحمد " بقرية كفر قاسم في فلسطين، حسب ما قدمها فيلم "كفر قاسم" (1974) سيناريو وإخراج اللبناني برهان علوية، عن قصة للأديب السوري عاصم الجندي كتب لها الحوار عصام محفوظ، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا، كلحظة من لحظات الكبرياء العظيمة في تاريخنا العربي، يطالعنا بمشهد رجال القرية في المقهي ينتظرون خطاب عبد الناصر من المذياع، الجميع يتعلق بصوت عبد الناصر وهو ينطق قراره بتأميم شركة قناة السويس العالمية إلى شركة مصرية مساهمة، فتزغرد النساء ويعم الفرح الجميع، قبل أن يحدث العدوان الثلاثي على مصر، وقبل أن تشهد قريتهم المجزرة البشعة التي ارتكبتها الصهاينة عشية قرار التأميم، في ذلك المساء الذي أعلن فيه عن فرض حظر التجول وكان العمال من أبناء القرية لازالوا يمارسون أشغالهم في الحقول البعيدة، فراحوا يتعجلون العودة إلى بيوتهم، لكن المحتل الصهيوني كان قد أعد آلته العسكرية التي حصدتهم وقطعوا عليهم الطريق وانهالوا عليهم بالرصاص على الجميع؛ رجال ونساء وأطفال.
كما قدم المخرج العراقي محمد شكري جميل في فيلمه (الأسوار) (1979) الأحداث التي أحاطت بحرب 1956، مستعينًا بالعديد من الأشرطة التسجيلية لتقديم مشاهد أرشيفية لوصول أسلحة أمريكية إلي أحد الموانيء العراقية مع تعليق خارج الكادر حول حلف بغداد الذي يدور في الفلك الاستعماري، وفي المقابل يظهر عبد الناصر معلنًا القناة، ثم يظهر الناس في الشارع العراقي يهنئون بعضهم مدركين أنه نصر للقوى الوطنية العراقية بقدر ما هو انتصار للثورة المصرية، ثم يظهر عبد الناصر مرة أخري في خطابه الشهير بالأزهر عندما بدأ العدوان الثلاثي، فتخرج المظاهرات في شوارع بغداد مشاركة شعب مصر.
بينما استعان المخرج السوري محمد ملص في (أحلام المدينة) (1983)، بخطاب التأميم ولكن في سياق واقع مختلف، إذ جسد الفرح السوري بالنصر المصري، في وقت كانت الانقلابات والانقلابات المضادة هي السمة الغالبة على الحياة السياسية في سوريا حينذاك، ومع كل إنقلاب يستمع الناس إلي البيانات ذاتها التي تهاجم السلطة السابقة وتعد الجماهير بحياة جديدة، وعندما يعلن عبد الناصر عن التأميم يصبح رمزًا للفعل الوطني ومعبرًا عن أحلام القوى الوطنية ليس في مصر فحسب، بل في الوطن العربي كله.
الحرب حاضرة وبورسعيد رمزًا للبسالة والجسارة وكذلك للتحول في عالم ما بعد الحرب كما شاهدنا في أفلام مثل: "أهل القمة" (1981) إخراج علي بدرخان، "ليلة القبض على فاطمة" (1984) إخراج هنري بركات، وحتى "السيد أبو العربي وصل" (2005) إخراج محسن أحمد، أفلام نلمح فيها واقعًا مختلفًا لمدينة حافلة بالتاريخ والجغرافيا، البشر والحجر، الأحداث والمسارات، الحرية والمغامرة، مدينة لازالت تحتاج إلى سرديات سينمائية وصور أكثر تروي حكاياتها المترعة بالمشاعر والتفاصيل المدهشة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة