عبثًا حاولت أن أنبه الصحفية الشابة التى اتصلت بى منذ يومين، وتحديدًا فى 26 ديسمبر، لتطلب منى كلمة عن المخرج عاطف الطيب فى ذكرى رحيله، التى تمر هذا الشهر، أخبرها أن الطيب رحل فى شهر يونيو وأن هذا الشهر هو شهر ميلاده وليس رحيله، حتى خُيّل إلى أننى أؤذن فى مالطا، فأغلقت الهاتف معتذرة، ورحت أبحث عن فيلم "سواق الأتوبيس"، ملجئًا للهروب وفرصة لالتقاط أنفاسى مع واحد من أجمل أفلامه وأصدقها.
حسن (نور الشريف)، بطل الفيلم هو واحد من هؤلاء الذين يطلون علينا كحراس لآدميتنا المهدورة، يحرسوننا حتى من أنفسنا، لديه هذا المزيج الأخاذ من الوجع المستغيث واللطف القاسى من فرط رقته، إنه "سواق الأتوبيس" المترع بالحب؛ الذى أُرغم على الصراخ والكراهية التى فُرضت عليه فى مجتمع لم يكن عادلا، يُشعرك أن صراخه وكراهيته شكل من أشكال الدفاع والمواجهة، فقد زاد الضغط على الوتر المشدود بينه وبين الواقع، هكذا رسم الطيب مع السيناريست الكبير بشير الديك الخطوط الرئيسية لبطل فيلمه الشهير "سواق الأتوبيس" (1982).
دشن الفيلم لرهافة المشروع المشترك بين الطيب وبشير الديك، وشكل هذا المشروع حالة مهمة فى المشهد الفنى المصري، كشفت عن مخرج وكاتب تمتّعا بميزات حرفية لافتة للانتباه، عاطف الطيب وبشير الديك ومعهما محمد خان الشريك فى كتابة القصة وصناعة الفيلم، الثلاثة بدرجة ما يشبهون "حسن" المحارب المنتصر على عدوه الصهيونى فى حرب أكتوبر، والإنسان المهزوم، المجروح فى بلاده على يد خصوم ومناوئين كُثر، أفسدوا الحياة وحولوها إلى بقعة جغرافية مفتوحة على الجنون والخيبات وهلوسات وهم الثراء السريع بكل نسقه الاستهلاكي، أبرز سمات مرحلة السبعينيات التى تركت ندوبها وآثارها فى وجدان صناع الفيلم الثلاثة.
حسن إذن النموذج، إنه الشهيد مجازًا لخلل وعبث تلك الفترة المربكة، والشاهد على ثقلها وغضب الحائرين، المتعطشين إلى خلاص ونجاة محتملة، كذلك كان التجسيد المثالى للطيب الذى انتمى إلى المصريين، حكاياتهم وقضاياهم، أحلامهم وهمومهم، سواء إنسانيًا واجتماعيًا وسياسياً، فمن يمكن أن ينسى: ”الحب فوق هضبة الهرم“، ”البريء“ عام 1986، ”كتيبة الإعدام“ عام 1989، ”الهروب“ عام 1991، ”ضد الحكومة“ عام 1992 وغيرها.
"حسن" على الشاشة واحد من فرسان هذا العصر، وعاطف فى الواقع يحاول ويجاهد ليقدم أمثال حسن فى أفلامه، بطلًا يمضى فى برارى لا نهاية لها بين هاويتين؛ هاوية الحرب الذى خلُص منها وصعد ظافرًا بالنصر والعبور، وهاوية المجتمع المتسرب من جذوره والذى يسعى فيه ليعيد تكوين المسافات، كى تفيض الحياة بصورتها الدافئة، الودودة كما فى تكوينه الأصلي.. الشاب الذى خاض أربعة حروب: اليمن، 67، الاستنزاف، أكتوبر 73، يرد فى حواره بالفيلم: " كنت فى الجيش أخرج من حرب وأدخل حرب"، لكنه حين عاد إلى مجتمعه المدني؛ لم يجد أمامه غير الانكسار، قلة الحيلة، العجز، الخذلان.
فى البداية إنطوى على ظله المهجور، واكتفى بدوره كمواطن، ترس، يدور فى عجلة العمل المتواصل، ليهبط على ظله مرة أخرى بالفتات، زوج وأب وسائق أتوبيس يستيقظ فجرًا ليبدأ مهمته اليومية، لا وقت حوله للكلام العاطفي، يقوم بسرعة فى يوم شتوي، يشد الغطاء بحركة ديناميكية على زوجته النائمة بجواره، يغسل وجهه ورأسه بماء بارد، يمر على غرفة طفله الصغير، يرمقه بنظرة حانية ويشد عليه الغطاء ثم يكمل ارتداء ملابسه وينطلق.
يجوب شوارع القاهرة بأتوبيسه الذى يزدحم بالناس والحكايات المعجونة بالوجع، ترافقها نغمات الناى الجالب للشجن فى تماهى مع الزحام واللهاث وراء الأتوبيس وسقوط إحدى السيدات على الرصيف بقوة التدافع أثناء نزولها، تفاصيل إلتقطتها نغمات الموسيقار كمال بكير، فارس آخر من فرسان الإبداع فى هذه الحقبة، كان جسر التواصل الموسيقى فى أفلام الثمانينيات بتوجهها المختلف نحو الموضوعات الإنسانية، حيث وضع الموسيقى التصويرية لحوالى عشرة أفلام منها ثمانية مع المخرج محمد خان، ناى كمال بكير فى "سواق الأتوبيس" بطلًا رئيسيًا يلازم البطل والناس، كذلك تنويعاته على موسيقى تراثية خالدة، فنجده استهل الفيلم بتنويعة على "الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية" عند إنطلاق حسن بأتوبيسه، ونشيد "بلادى بلادى لك حبى وفؤادي" فى مواضع أخرى، فقد عبرت موسيقى كمال بكير بآلاته الشرقية فى هذا الفيلم عن شجون محارب منتصر، عاد إلى الواقع ليصبح بطلًا مهزومًا.
فى هذه اللحظة الاستهلالية يلازم نايه المهمشين، المهملين، اليائسين، المحشورين فى أتوبيس، حتى يأتى لص ويسرق محفظة امرأة كانت تحكى منذ قليل عن سلع استهلاكية فى الجمعية، تدخل الطبلة مع الناى كخفقان قلب، حين ينتبه حسن فى المرآة للص ويغلق أبواب الخروج، فيقفز اللص من النافذة ويهرب، فيهم حسن بمطاردته ثم يتراجع مستسلمًا وهو يصرخ فى السيارات التى أطلقت نفيرها حوله:" طيب طيب إنتو روخرين" وينصرف ليُكمل طريقه.
هذا المشهد الاستهلالى يختصر حالة هذا السائق الذى إنحدرت حياته إلى منزلق صعب، ولتأكيد المعنى جاء مشهد النهاية مغايرًا، هو نفسه فعل السرقة وصراخ امرأة فقدت راتبها الشهري، لكن حسن لم يعد كما فى البداية، فيقفز من مقعده ليطارد اللص بضراوة، دون أن تفزعه المطواة التى يشهرها اللص فى وجهه، يواجه هزيمته وإحباطه وينقض على اللص فيما يطلق صيحته الغاضبة: "يا أولاد الكلب .. يا أولاد الكلب"، كيف حدث هذا التحول لسائق الأتوبيس؟ إنه ما فعله الطيب وكتبه بشير الديك فى سيناريو بوعي، كشف عن تغير يعترى المجتمع كله ويعريه فى لحظة لم تتسع للحالمين، الصابرين الذين أجهضت أحلامهم، هنا تختلط أصوات الناى والطبلة والكمان لتشارك فى المرثية، الحكاية التى كتبها بشير الديك راصداً الفراغ الآدمى الذى حاصر المجتمع بعد حرب أكتوبر 1973، هذا الفراغ الذى أفسد الحياة وظهر سُعاره فى العلاقات التى ضاقت بالقيم النبيلة.
حسن ابن الحاج سلطان (عماد حمدي) صاحب ورشة الخشب، الأب النموذجى والقدوة له، يصارع وحده وحشة واقعه التى استحوذت على كل شيء، وانغلقت على سواد الطمع وتكديس الأموال والتفكك العائلي، يعمل سائقًا لأتوبيس نهارًا ولتاكسى ليلًا، يعانى مع زوجته (ميرفت أمين) التى تتمرد على سوء حالته المادية، ويكافح من أجل الحفاظ على ورشة أبيه التى يتخلى عنها الجميع فى خضم الجشع والنهم الذى استشرى وتسلط حتى على شقيقاته وأزواجهن الشرهين، الورشة هنا هى رمز للشرف والكرامة وربما لبلده الذى خذلوه، إلا حسن ورفاقه من المحاربين، شلة القروانة، جيل الحرب الذى دفع ضريبة التغيير بفداحة.
لم يقدم الفيلم صورًا لبطولاتهم على الجبهة، بل كثف إغترابهم عن المجتمع الجديد فى مشاهد تواصلهم ولقائهم بين التحرك بتاكسى حسن والعشاء الشعبى على خلفيته أغنية قديمة لعبد الحليم حافظ، صوتًا من زمنهم الماضي، إلى أن يجتمعوا تحت سفح الهرم فى ليلة يكتمل فيها القمر، ليتسلل توزيع جديد لنشيد "بلادى بلادي" بإيقاع مفعم بالشجن، فيما يستدعى رفاق السلاح ذكرى الحرب، ويتذكرون رفيقهم صادق الذى استشهد..
حسن: زمان كنا لما نشوف القمر كدة كنا نقول له فى سرنا، يجعل نورك فى عينينا وضلمتك تحت رجلينا.. كل حاجة كانت زمان، بتفكرنا بليالى الانتظار الطويلة قبل حرب 73، فاكرينها؟".. صوت الناى يتماوج ويئن على" نغمات بلادى بلادى لك حبى وفؤادي"
حسن: أنا حضرت حرب اليمن و67 وفضلت 3 سنين راقد فى خندق، أيام حرب الاستنزاف، وعديت مع اللى عدوا فى حرب 73، فى المدة دى كلها قابلت كتير وعاشرت كتير.. ولكن عمرى ما ماقابلت رجل زى صادق
- كان راجل من ضهر راجل
- كان وش موت مع انه كان بيحب الحياة بجنون
- ولما ابتدت الحرب فى 73، كنا فى فايد وجت الأوامر نعدي، يوميها رقص رقص، ما كانش يعرف انه هيستشهد بعد ساعة واحدة وينجينى أنا، ياخد دفعة الرشاش بدالي، عشان أعيش مكسور بموته طول عمري..
صورة عبد الناصر منزوية فى ركن بعيد بالورشة، والحاج سلطان يتوارى فى منزله متجرعًا مرارة الضعف والخذلان، ثم يقرر فى لحظة حاسمة أن يودع ورشته الشاهدة على قوته القديمة، يتأمل تفاصيلها كأنها ترمم أوجاعه، يحكى لابنه الذى يشعر بأحاسيس الخيبة التى تستشرى فى شرايين وأوصال والده، عن البدايات والكفاح بشرف فى زمن كان يعى معنى القيم، قبل هذا الزمن الجديد المتخم بقبح المتآمرين وانتهازيى الفرص، آنين كمان كمال بكير يتسلل كصوت بشرى يضج بوليمة الخراب التى تستفحل فى البلد، فى الورشة التى تتابع لقطات مدير التصوير سعيد شيمى لتسجيلها، وتسكينها فى الذاكرة حتى لايفوتنا شيئًا، الأب وابنه فى خلاء المكان، يطرق الأب الماضى ويحاول الابن أن يجمع شظايا الحاضر:
- أبا أيه اللى مقعدك هنا؟
- أنا مليش مطرح غير ده يا حسن
- أنا عارف يا ابا.. بس إنت تعبان
- قفلتها ليه؟ دى عمرها ما اتقفلت
- حسيت إنها لحمى لازم ألمه وأداريه من عيون الناس، لكن ما تشيلش هم هتشتغل تانى وترجع زى الأول وأحسن
- مع صاحب النصيب بقى
- لا.. معاك إنت.. إنت اللى هتقف فيها وتشغلها
- أنا خلاص يا حسن
- ما تقولش الكلام ده.. إنت لو وقفت فيها يوم واحد هترجع لصحتك
- أنا هبيع الورشة وكفاية كدة
- لأ.. مستحيل الورشة تتباع
- أحسن ما أبيع أختك
هذا المشهد هو الأخير للفنان عماد حمدى فى مشواره السينمائى وفى الفيلم قبل أن يستسلم للموت كحصن يلوذ به من حسرته، البطل المهزوم مأواه هو الرحيل، البطولة المهزومة أورثها أيضًا لابنه الذى شارك فى حروب من أجل وطن تغير نسقه، حسن ابن سلطان هو البطل الذى حمل روحه على كفه وعبر خط بارليف ليسترد أرضه وكرامته، فقد الاثنتان (الأرض والكرامة) فى عصر السبعينيات بقيمه الاستهلاكية وآثاره البغيضة على قيمة العائلة؛ حارب وانتصر فى أكتوبر 1973، ثم خاض معركة الانفتاح الاقتصادى الأشرس الذى سرق زهوة النصر ونضال صانعيه.
حسن هو الامتداد لوالده "سلطان" الخارج من أزمنة أخرى؛ ناضل وقت الاحتلال الانجليزي، تعارك مع ضابط إنجليزى ثم هرب إلى القاهرة وافتتح ورشته للنجارة وصار "الأسطى" الكبير، إلى هذا الزمن الذى يتهافت المستغلون الجدد لسرقة الورشة وتحويلها إلى بوتيكات تناسب عصر الانفتاح، عدا ابنه حسن الذى يقف إلى جواره ويرشف معه مرارة الخيبة.
من المفارقات المدهشة أن من يقوم بدور الأب هو نفسه الفنان عماد حمدى الذى أعلنه فيلم "السوق السوداء" من إخراج كامل التلمساني، بطلًا سينمائيًا فى العام 1944 بمواصفات غير السائدة فى عصره، رجل ينتمى إلى واقعه، لكنه يقاوم أفخاخ هذا الواقع بتحصنه المنيع بأفكاره الاشتراكية، فيما يواجه المستغلون الذين ينهشون فى أوصال المجتمع، بروح صلبة ترفض التنازلات والمساومات كما يقول الناقد كمال رمزى فى مقاله "فارس الأحزان المهزوم" فى كتابه (نجوم السينما المصرية.. الجوهر والأقنعة) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة عام 1997، مضيفًا :" لعلها المرة الأولى التى تطالعنا فيها السينما المصرية برجل يبث الوعى فى عقول سكان الحارة". ثم صار حماسيًا أكثر فى عصر عبد الناصر وثورة يوليو؛ مع أنه كان يحاول أن يضبط إنفعالاته ويخرج صوته أكثر عمقًا وتأثيرًا، وهو يجسد شخصية ضابط الجيش الذى حارب فى فلسطين، أو فى أدواره الرومانسية المتعددة التى رشحته بطلًا يمثل قيم عصره، ثم شارك فى التحول الجذرى الذى يحدث فى المجتمع، ليتحول هنا إلى هذا العجوز المهزوم؛ "سلطان" العاجز عن محاربة الداء الطفيلى الذى امتد إلى أزواج بناته، فأصبحوا جميعًا أنانيين ليموت الأب بحسرته مغادرًا الزمن الجديد الذى سرقه "ولاد الكلب"، حسبما صرخ الابن "حسن" فى نهاية الفيلم وهو يطارد لصًا صغيرًا فى مجتمع زاخر باللصوص الكبار، ينهال حسن باللكمات على اللص ، يثبت الكادر عليه وهو يترنح وينزف دمًا بينما ترنيمة "بلادى بلادي" تنسحب بهدوء موجع.
"سواق الأتوبيس" مثالًا لحالة إبداعية متكاملة على مستوى الإخراج والكتابة والتصوير والموسيقى والأداء التمثيلي، وكان هذا كافيًا للفيلم الذى عُرض أول مرة فى مهرجان الإسكندرية السينمائى الدولي، وحصل على جائزة العمل الأول لمخرجه فى مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس، وكذلك فوز نور الشريف بجائزة أفضل ممثل فى مهرجان نيودلهي، كان كافيًا يحصل على الترتيب الثامن فى قائمة أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائى الدولى لعام 1996، بمناسبة مائة عام سينما، والمركز الـ 33 ضمن قائمة أفضل مائة فيلم فى تاريخ العربية باستفتاء مهرجان دبى السينمائى الدولى عام 2013.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة