سلطت دراسة حديثة صادرة عن المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية الضوء على مجموعة من الوثائق البريطانية التى تفيد بتورط الإخوان فى العمالة للإنجليز أثناء فترة الاحتلال.
وأشارت الدراسة إلى أنه في يوليو 1943، اقترح تقرير من عميل لجهاز الاستخبارات البريطانية يعمل في القاهرة أنه في حين أن البريطانيين يجب أن يستمروا في دعم حزب الوفد، يجب عليهم أيضًا "تأسيس علاقات متعاطفة غير رسمية مع حسن البنا"، وكان هدف المبادرة جمع معلومات لفهم التنظيم بطريقة أفضل. ثم ذهب البعض داخل الحكومة، إلى الترويج لفكرة أن تلك القنوات مع التنظيم يمكن أن تساعد في تحويل الإخوان نحو الليبرالية السياسية والاجتماعية، وتشجعهم على أن يصبحوا أكثر حداثة.
ونقلت الدراسة عن المؤرخ البريطانى فرامبتون إن البرقيات بين الخارجية البريطانية والسفارة في القاهرة والوثائق تكشف أن سنوات الحرب العالمية الثانية كانت حاسمة فيما يتعلق بتأسيس تنظيم الإخوان. فقد جلبت الحرب أشكالًا للمواجهة ضد الإخوان تشمل الاعتقالات، وتعطيل الأنشطة والمراقبة. لكن مصاعب الإخوان لم تدم طويلًا، فقد أظهر البنا تكتيكًا سياسيًا منفعيًا بارعًا للغاية، وفتح قنوات مع القصر والوفد والسعديين والبريطانيين والألمان والإيطاليين، وحافظ على هامش مناورة أعطاه حماية مؤكدة تحت أعين البريطانيين والقصر والحكومة. وفي الوقت الذي تم فيه إقالة النحاس، كان تنظيم الإخوان المسلمين أقوى من أي وقت مضى باعتراف الدبلوماسيين والاستخبارات البريطانية.
ويقول مارتن فرامبتون في كتابه "الإخوان المسلمون والغرب" إن تنظيم الإخوان قد لفت انتباه الدبلوماسيين الأمريكيين لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وفي مطلع الأربعينيات تحديدًا. قبل ذلك، لم يعيروا اهتمامًا يذكر للتنظيم. ووصف المسئولون في المفوضية الأمريكية بالقاهرة الإخوان بأنهم متورطون في "أنشطة تخريبية". وفي رأيهم، كان الإخوان "يميلون إلى المزايدة لإعطاء ولائهم لمن يدفع أكثر".
وأعرب مسئولون أمريكيون بالقاهرة عن اعتقادهم أن حكومة النحاس باشا هي السبب في مد نفوذ التنظيم في أعقاب اتفاقهم عام 1942 مع النحاس، والذي منحهم إعانات مالية وحصانة سياسية. ولهذا السبب، تعهد المسئولون الأمريكيون بمراقبة التنظيم عن كثب في المستقبل. ويقول فرامبتون إن واشنطن قررت فقط مراقبة أنشطة التنظيم، لكن ترك التعامل معه بعد انتهاء الحرب العالمية مسئولية بريطانيا، بوصف لندن من سيتحمل مسئولية حماية مصالح الغرب في مصر.
وبالتالي، وجدت الحكومة البريطانية بعد الحرب نفسها أمام ذلك التحدى الجسيم. وأخذًا في الاعتبار تخبط لندن في السابق، كانت المهة لا شك معقدة. ولم يفت على التنظيم ومؤسسه حسن البنا أن البيئة المتغيرة بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن أن تساعد التنظيم على النمو والانتشار.
وكانت رؤية البنا أن العالم يقف عند مفترق طرق: طريق يتجه نحو الشيوعية وروسيا السوفيتية، والآخر نحو الديمقراطيات الغربية وبريطانيا وأمريكا. وكان خيار التنظيم مغازلة المعسكر الثاني، بدون قطع كل الخيوط مع المعسكر الأول.
وفي هذا الجو المشحون وبناء على طلب البنا، بدأ التنظيم محاولة بناء مجموعات موالية له داخل قوات الأمن والجيش، وأنشأ قسمًا في التنظيم لهذا الغرض تحديدًا. أما على الصعيد السياسي، فقد فاز الحزب السعدي برئاسة رئيس الوزراء أحمد ماهر في انتخابات 1945. وفي أعقاب انتصاره، أعلن أحمد ماهر دخول مصر في الحرب على جانب الحلفاء. ولم يكن الأمر أكثر من مجرد لفتة رمزية بالنظر إلى أن الحرب كانت تقترب من نهايتها. وكان هدف ماهر هو ضمان مكان لمصر في مؤتمر السلام في سان فرانسيسكو، على أمل أن يستخدم قرار انضمام مصر إلى جانب الحلفاء في الحرب، للضغط على البريطانيين لمنح مصر استقلالها. لكن ماهر دفع ثمن هذه الخطوة بحياته. ففي طريقه للخروج من مجلس النواب حيث كشف عن القرار، قتل بالرصاص. وبرغم قصر فترة ماهر على رأس الحكومة، إلا أنه وضع مطالب مصر الوطنية على الأجندة السياسية الدولية.
خلف ماهر، نائبه محمود فهمي النقراشي باشا، الذي كان مصممًا على المضي قدمًا في سياسات سلفه. ويقول فرامبتون إن الوثائق وبرقيات السفارة البريطانية تظهر منذ البداية، استياء السفارة من النقراشي باشا، الذي وصفه السفير لامبسون بأنه أشبه “مدير مدرسة صارم وضيق الصدر”. وكانت الدوائر البريطانية تنظر إلى رئيس الوزراء الجديد على أنه “قومي من النوع الأكثر تطرفًا”، و”يُخشى أنه لن يلعب الكرة بالطريقة التي يرغب بها البريطانيون”.
وكان هذا التقييم صحيحًا، فقد تم إرسال وفد مصري إلى مؤتمر سان فرانسيسكو، وأعلنت الحكومة علنًا عن نيتها في تحقيق تطلعات مصر الوطنية، ودعا النقراشي إلى “انسحاب جميع القوات البريطانية” من مصر. ويوضح فرامبتون أنه وعلى هذه الخلفية، أعطى الإخوان في البداية دعمًا حذرًا لحكومة النقراشي، وأيدوا موقفه من القضية الوطنية. وأصر حسن البنا على أنه لا جدوى من المفاوضات مع البريطانيين، الذين، بحسب رأي غالبية المصريين، استخدموا المحادثات فقط كوسيلة للمراوغة.
لكن كان من الواضح أن زعيم الإخوان المسلمين، البراجماتي حتى النخاع، رأى أيضًا أن موقفه هذا يقربه من حكومة النقراشي ويفتح باب تحالف بين الوفد والإخوان. وبحسب الكثير من المؤرخين، فإن حكومة النقراشي بتقاربها مع الإخوان كانت ترغب في استغلال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من أجل مكافحة النفوذ المتزايد للجناح اليساري للوفد والشيوعيين في الحرم الجامعي.
ولتحقيق هذه الغاية، يقول فرامبتون إن رئيس الوزراء النقراشي باشا توصل على ما يبدو إلى اتفاق مع البنا، مما وفر تمويلًا جديدًا للتنظيم، وهو ما مكن من بناء مقر جديد للإخوان. وكان الثمن صمت التنظيم عن ملاحقات الحكومة للجناح اليساري والشيوعيين في الحرم الجامعي، وكان أثر ذلك هو تقسيم الحركة الطلابية إلى تيارات متضاربة ومتباينة، وبهذه الطريقة اختار البنا مسار الواقعية السياسية مع السلطة مرة أخرى.
تفاهمات البنا والنقراشي لم تعنِ أن الحكومة صدقت كل وعود التنظيم أو تعهداته، وأمر النقراشي بالمراقبة المتزايدة للتنظيم حتى أثناء التقارب بينهما. ويشير فرامبتون إلى أنه خلال هذه الفترة كان البنا حريصًا على إرسال رسالة إلى الأمريكيين مفادها أن الإخوان “خير حليف لهم” في المنطقة لمحاربة الشيوعيين.
وبتحالفه مع النقراشي وإعلانه المتواصل رفضه للمد الشيوعي، أثار البنا، كما يوضح فرامبتون، اهتمام بعض المسئولين داخل الولايات المتحدة. وبعد عدة أشهر، قامت وحدة الشرق الأدنى في الخارجية الأمريكية بتجميع تقرير طويل عن التنظيم. ويلاحظ التقرير استغلال التنظيم لبناء دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية لمد النفوذ داخليًا وخارجيًا عبر التواصل مع المسئولين والسفارات الغربية.
من ناحيتها، لاحظت لندن أن التنظيم بات أشبه بحزب سياسي منظم منه إلى تنطيم دعوي. ويقول فرامبتون إنه في هذا السياق التقى في القاهرة عام 1946، السير والتر سمارت من السفارة البريطانية بحسن البنا، على ما يبدو ثاني لقاء من نوعه بين الاثنين. ويشير تقرير سمارت إلى أنه تحدث مع البنا في منزله قبل ثمانية عشر شهرًا. وفي تعبير عن ثقته المتنامية، أكد البنا أن “الأهداف الدينية في الإسلام هي بالضرورة.. سياسية”.
وأهم من هذا أعاد البنا التأكيد على ما أسماه سمارت “أطروحته القديمة”، بأن “الإخوان المسلمين هم حلفاء بريطانيا الأكثر فائدة في مجتمع مهدد بالانحلال”. وشدد البنا على أن الإخوان المسلمين “هم أكبر حاجز ضد الشيوعية”، “وأكبر عامل عامل لتحقيق الاستقرار”.