نواصل إلقاء الضوء على كتب المفكر المصرى الكبير زكى نجيب محمود (1905 -1993) الذى يعد أحد أبرز المثقفين العرب فى القرن العشرين ونتوقف اليوم مع كتابه "قصة الفلسفة اليونانية" الذى صدر عام 1935.
ويقول زكى نجيب محمود فى مقدمة الكتاب:
لم يكد يظهر الإنسان على وجه الأرض، حتى دأب يسعى ويلح فى السعى كلما ألحت عليه غريزة حب البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به سخية كريمة، فلم تبسط يدها فى العطاء بحيث تمنحه من قوى الفكر ما يحصل به ضرورات العيش ويرد به عادية الطبيعة فى سهولة ويسر، بل كانت مقترة مسرفة فى التقتير، اكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذى يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت، وتحصيل الضرورى من أسباب الحياة.
زكى نجيب محمود
ولكن الزمان الذى يغير كل شيء، قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلًا قليلًا من تلك الحياة التى كانت تقنع بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه، ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة، ولم يعد يصدر فى ذلك عن شعور ووعى يستنفدان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء، بل أصبح كثيرٌ من شئون العيش عادة آلية يديرها اللاشعور، وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ الفينة بعد الفينة، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يحلم بهذا الكون الذى يحيط به، والذى يبعث فى النفس اللذة والخوف فى آن واحد، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكى يُرضى خياله الساذج الغرير سوى أساطير ينسجها له الخيال فيرويها، لتكون له عقيدة وأدبًا وعلمًا وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت "الميثولوجيا" أول الأمر، ثم يمضى الزمن ويمعن فى مُضِيِّه، فيدفع معه فى تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق، وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة، وخف عنه العذاب الذى كانت تسلطه عليه الضرورات ليدأب فى جمع القوت ودرء الخطر، واستقبل عهدًا جديدًا رأى فيه اللذة والفراغ بجانب عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شيء من ترف الفكر وإبداع الفن، وإذ ذاك تغير موقفه، فلم يعد عبدًا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لأمره فيطيع، بل أخذ يساهم فى تعديل قانون الحياة، وأخذ يفكر فى خلق السموات والأرض، ويُسائل نفسه: لماذا كان هذا هكذا ولم يكن غيره؟ وكيف نشأ ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة