عندي ضعف خاص حيال نهار يبدأ بأغنيات سيد درويش، خصوصاً "الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية"، أسمعها بكل تنويعاتها وأداءاتها من سيد درويش وحفيده إيمان البحر إلى فيروز وأميمة الخليل وكل الأصوات الحديثة المتعاقبة، وحتى بصوت حنان ترك في فيلم "الآباء الصغار" (2006) بطولة وإخراج دريد لحام.
يلا بنا على باب الله يا صـنايعية
يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطيـة
على كلماتها البسيطة، ثمة حياة، حب، اهتمام حقيقي فيها، يعكس زمناً مضى ويحكي عن راهن لم يتخلص من قديمه.
صبح الصباح فتاح يا عليم
والجيـب مافهشى ولا مليم
زمن يدور ويدور معه بشر يعيشون على الهامش، ينتظرون اللحظة المواتية لأدميتهم، وربما يخشى بعضهم أن ينفق عمره قبل أن يصل إلى تلك اللحظة.
ما تشد حيلك يا ابو صلاح
إضربها صرمة تعيش مرتاح
لحن عذب ينسجم مع كلمات هي خط الدفاع في مواجهة شراسة الواقع وغلظته، لكن الأهم أن الفتى السكندري الذي قفز من شرفة القصر، التعبير المتداول للنقاد لوصف الثورة الموسيقية التي فجرها سيد درويش، بتخليه عن التخت والزخرفات والقواعد والثوابت والثقافة الموسيقية التقليدية، في مقابل موسيقى مصرية لها حالتها شديدة الخصوصية، هذا الفتى الجامح الذي حقق مزاجاً سماعياً مغايراً، منحازاً للصنايعية، المراكبية، الحمالين، العربجية، الباعة المتجولين، وغيرهم من طوائف شعبية؛ خصص لهم تجربته اللحنية بكلمات بديع خيري أو محمد يونس القاضي (مؤلف النشيد الوطني المصري).
حتى عن الحشاشين قدم "التحفجية"، ليس بغرض الترويج للحشيش بالتأكيد، إنما هي على جرأتها تعبر عن تفصيلة من التفاصيل اليومية للمصريين تحت وطأة الاستعمار، والفقر، بل ربما كانت كما أغنياته الأخرى وسيلة من وسائل المقاومة والتوعية، جلسة مزاج تتقاسم فيها الموسيقى مع الكلمات والأداء المعبر عن حال الحشاشين: "بس الأكادة حبس وظلومة يكفينا شرك يادى الحكو حكو حكومة حكو حكو حكو حكو حكومة"... "هو إحنا يعني علشان غلابة .. لا بتوع قراية ولا كتابة تهينونا؟"، موسيقى تصعد وتهبط؛ كأنها تدون حال هؤلاء الذين لا ينصاعون لواقعهم، يهربون منه على طريقتهم، ثم تقودهم حواسهم وعواطفهم الوطنية الجياشة بعد ذلك إلى كسر الحالة برمتها: وأقول لك الحق يوم ما نلقى بلادنا طبت فى أي زنقة/ يحرم علينا شربك يا جوزة روحي وانتي طالقة مالكيشي عوزة/ دي مصر عايزة جماعة فايقين.. يا مرحب.
تمرد كامل الأركان في الجمل الكلامية واللحنية، ينبع من الشارع المصري ويواكب ثورة 1919 التي أسهمت بدورها في تطوير الشخصية المصرية وتغيير المشهد المرئي والسمعي حينذاك، وكان سيد درويش واحداً من رموز هذا التحول الكبير، بل هو صوت الثورة الذي حفز المصريين على النضال:"قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، "أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الإهرامين".
كنت لفترة قريبة أتوقف عند لقبه "خالد الذكر"، فعلى الرغم مما يحمله من مهابة وتعظيم، رأيت أنه لقب عام بشكل كبير يمكن أن يمتد إلى أي شخص أخر ترك أثراُ ما للبشرية، بينما ألقاب أخرى كالتي وصفه بها مثلاً عباس العقاد: إمام الملحنين، نابغة الموسيقى، أو غيرها كـ"مجدد الموسيقى" أو"باعث النهضة الموسيقية"، أقرب إلى التعبير عنه، ظل رأيي هذا يلازمني حتى فوجئت بأبناء أخي الصغار يرددون مؤخراً، بعض الألحان التي حفظوها أثناء المكوث الطويل في البيت بسبب وباء كورونا، ومنها: "سلمى يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة/ صفر يا وابور واربط عندك نزلني في البلد دي/ بلا أمريكا بلا أوروبا ما فيش أحسن من بلدي".
أو "مخسبوكو إنداس . صبخ مختاس/ مسخت بابوتس يا ناس/ مفيس فلوس . بقيتو منحوس/ خلصتو خلاص/ نستغلوا في إيه . يا افندي يا بيه . مادام البخت موريه"، فأدركت مع صوت الصغار السعيد بالأغنيات، أن "خالد الذكر" ليس مجرد لقب يمكن أن يوصف به سيد درويش، لكنه تلخيص لبقائه المستمر، وإن لازلت عند يقيني بأن "فنان الشعب" هو اللقب الأقرب لشخصية سيد درويش وحضوره المستقر في الوجدان الشعبي المصري، حتى "مخسوبكو إنداس" المطعمة بكلمات يونانية، هي جزء من تركيبة المجتمع المصري وقتذاك، ذلك المجتمع الذي إنصهر فيه الجميع وكانوا نسيجاً واحداً:" أخيه أمان أمان فين المصر بتاع زمان"، على مستوى مشابه أغنية باللهجة السودانية:" مافيش هاجة اسمه مصـري ولا هاجة اسمه سودانـي/ نهر النيل راسه في ناهية رجليه في الناهية التاني/ فوجاني يروهوا في داهية إذا كان سيبو التاني"، إنها أغنية تتناول مصر والسودان ككيان واحد:" اتنين جيران بلدنجي والهيطة جنب الهيطة".
حسناً! سيد درويش إذن توغل في قضايا كبرى وموضوعات اجتماعية بعذوبة ولطف وخفة ظل:"استعجبوا يا افندية متر الجاز بروبية/ وبقاله اليوم شنة ورنة واللي بيبيعه له كلمة/ يا ما ناموا كتير ناس في الضلمة وصبح أغلى م الكولونيا"، كما خرجت أغنيات مهمة من أوبريتاته مثل: "شد الحزام على وسطك غيره مايفيدك/ لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك/ إن كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك/ أهون عليك يا حر من مَدة إيدك"، أو "أهو دا اللي صار وادي اللي كان/ مالكش حق تلوم عليا/ تلوم عليا إزاي يا سيدنا وخير بلادنا ماهوش في إيدنا"، هذه الأوبريتات بقدر دأبها على التعبير عن الهم المصري العام، استوعبت حالة سيد درويش الموسيقية التي امتزجت فيها الأوركسترا الشرقية مع الأوركسترا الغربية، نتيجة إختلاطه بالفرق الأجنبية الوافدة إلى الإسكندرية والقاهرة، هذا غير تأثره بالفترة التي قضاها في لبنان، ما شكل في النهاية ذائقة موسيقية متجاوزة عصرها.
أما عن أدوار سيد درويش، وهم عشرة أدوار فقط، فإنها في كفة ميزان وحدها، يصعب تجاهلها وعدم اقترانها بثورته في التجديد، لأنها حداثية مقارنة بمثيلاتها في عصره، محرضة، ملهمة، متأثرة بطموحه، التجديد الذي أحدثه حسب حديث بيرم التونسي عن هذه الأدوار، هو تطرقه لمقامات غير مستخدمة: الشورى أو النكريز أو الزنجران وهو مقام ابتكره بنفسه، أدوار مصرية خالصة، شرقية بحتة، مفعمة بالشجن والمشاعر الحارة، فيطالعنا مثلاً: "خفيف الروح بيتعاجب / برمش العين والحاجب"، "ضيعت مستقبل حياتى في هواك وازداد عــلي اللوم وكتر البغددة"، "فى شرع مين قاضى الهوى يذله خصمه ويحكمه"، "أنا هويته وانتهيت وليه بقى لوم العزول".
كل هذه الموسيقى مستمرة وباقية تمنح حياتنا الصعبة قدراً من البهجة، صنعها الشيخ سيد درويش، قبل أن يرحل باكراً في عز شبابه، أحياناً يلح علي السؤال: ما الذي كان يمكن أن يضيفه لو طال به العمر؟ .. تأتيني الإجابة بصوته: الشمس طلعت (والملك لله) وإجري لرزقك (خليها علي الله)، محرضاً على العمل؛ حسبما هو فعل في حياة هيأها للموسيقى والعمل الإبداعي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة