«أمريكا أولا».. تحول من مجرد شعار انتخابى للرئيس السابق دونالد ترامب إلى «شبح» حقيقى يلاحق خليفته جو بايدن، فى المرحلة الحالية، جراء النهج الذى رسخته الإدارة السابقة، والذى لاقى قبولا كبيرا لدى القطاع الأكبر من المواطنين فى الولايات المتحدة، وبالتالى فإن التخلى المباشر عن الأولويات التى وضعتها الإدارة السابقة، ربما يبقى مكلفا إلى حد كبير فى ضوء معطيات تجلت بوضوح، منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، والتى عقدت فى نوفمبر الماضى، حيث نشبت احتجاجات غير مسبوقة، وصلت إلى ذروتها فى اقتحام الكونجرس إبان جلسة التصديق على النتائج التى آلت إليها فى 6 يناير الماضى، فى انعكاس صريح ليس فقط لما يحظى به الرئيس السابق من شعبية كبيرة، وإنما أيضا لحالة القبول لدى الشارع تجاه السياسات التى يتبناها.
فعلى الرغم من حرص الإدارة الأمريكية الحالية، على تقويض إرث ترامب، منذ اليوم الأول لتنصيب بايدن فى 20 يناير الماضى، عبر العديد من القرارات التنفيذية والتصريحات والوعود التى تهدف إلى استعادة الأمور إلى حقبة «ما قبل ترامب»، فإن شعار «أمريكا أولا» يبقى مستعصيا عليها، فى ظل المخاوف الكبير من التداعيات التى قد تؤول إليها أى خطوة من شأنها التراجع عن النهج الذى أرسته الإدارة السابقة، والذى يقوم فى الأساس على أن يكون المواطن الأمريكى محور كل السياسات التى تتبناها واشنطن، ليس فقط على مستوى الداخل، وإنما أيضا فيما يتعلق بالدبلوماسية الأمريكية، وهو الأمر الذى يصعب معه استعادة زمام الأمور بصورة كاملة، وهو ما يبدو فى العديد من الملفات التى يحاول بايدن التعامل معها، بينما يخطو أولى خطواته كرئيس للولايات المتحدة.
ولعل التقارب بين الولايات المتحدة وإيران يمثل أولوية للرئيس جو بايدن، فى المرحلة الحالية، لإحياء إرث الرئيس الأسبق باراك أوباما، حيث كان الاتفاق النووى، الذى عقدته طهران، مع القوى الدولية الكبرى، برعاية واشنطن، أحد أبرز إنجازات إدارته، والتى قوضها ترامب عبر انسحابه منها فى مايو 2018، وبالتالى تبقى العودة للعلاقة مع طهران، سواء عبر العودة للاتفاقية القديمة، أو من خلال تدشين ميثاق جديد، إحدى أهم أولويات الإدارة الحالية.
إلا أن ظروف الاتفاق القديم تبدو مختلفة إلى حد كبير، فى ضوء شعار «أمريكا أولا» التى أرساها ترامب، حيث يبقى الحديث عن السجناء الأمريكيين فى طهران أحد المعطيات التى فرضتها الإدارة السابقة، والتى رفضت تحقيق التقارب مع أى دولة من خصوم واشنطن التاريخ، فى ظل وجود مواطنين أمريكيين قابعين خلف الأسوار لديهم، وهو ما تجلى فى أبهى صورة فى أولى محطات التقارب بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، حيث رفض الرئيس السابق انعقاد أى لقاء مع الزعيم كيم جونج أون دون الإفراج عن السجناء الأمريكيين فى بيونج يانج، وهو ما استجابت له «الدولة المارقة» فى نهاية المطاف، ليعود السجناء الأمريكيون إلى بلادهم مجددا، ويخرج الرئيس وزوجته لاستقبالهم فى المطار.
ولعل حرص إدارة بايدن على إثارة مسألة السجناء الأمريكيين، دون غيرهم، رغم وجود سجناء من دول أخرى، على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهى دول أعضاء فى الاتفاقية الأولى، يمثل امتدادا صريحا لسياسة «أمريكا أولا»، وهو ما يساهم بصورة كبيرة فى زيادة الفجوة بين واشنطن وحلفائها فى المرحلة الحالية.
ولم تقتصر أبعاد «أمريكا أولا» على الاتفاق النووى الإيرانى، وإنما تمتد إلى العديد من القضايا الأخرى، بشقيها الداخلى والدولى، ومنها النهج الاقتصادى، القائم على سياسة «الحمائية» التجارية، والتى طالما تبناه ترامب، عبر فرض الرسوم الجمركية على الواردات القادمة من الخارج، وهى السياسة التى أثارت غضب قطاع كبير من الدول، وعلى رأسها حلفاء واشنطن التاريخيون، سواء فى أوروبا أو غيرها من مناطق العالم.
وتعد «الحمائية» أحد أبرز الفخاخ التى نصبتها إدارة ترامب لخليفته، حيث يبقى من الصعب التخلى عنها تماما، فى ظل المستجدات التى يشهدها الداخل الأمريكى، وهو ما بدا بوضوح فى مبادرة «صنع فى أمريكا» والتى تبناها بايدن، مع انطلاق حقبته، لدعم المنتج الأمريكى، على حساب الواردات القادمة من الخارج، وهى المبادرة التى استقبلها الحلفاء بمزيد من الشكوك، حول ما إذا كانت الإدارة الجديدة تنتوى إصلاح ما أفسده ترامب، فيما يتعلق بالعلاقة التجارية معها، أم أنها سوف تواصل نفس النهج، الذى يحمل فى طياته بعدا عدائيا، فى ظل تداعياته الكبيرة على المستوى الاقتصادى.
بينما يبقى إرث العداوة بين الولايات المتحدة والصين، هو أحد أبرز المستجدات التى خلقها ترامب، إبان حقبته، حيث نجح إلى حد كبير فى إعادة هيكلة خريطة «الخصوم»، عبر مهادنة روسيا، والتى تعد بمثابة الخصم التاريخى لواشنطن، بينما صوب أسهمه تجاه الصين، على خلفية الاختلال الكبير فى الميزان التجارى بين البلدين، وهو الأمر الذى يرتبط مباشرة بالخسائر التى يتكبدها الداخل الأمريكى جراء الغزو الصينى للأسواق الأمريكية، بعيدا عن حسابات السياسة الدولية، التى طالما وضعت موسكو فى خانة «العدو»، على خلفية المنافسة التاريخية بين أمريكا والاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أن بايدن يحاول استعادة «لهجة» العداء تجاه موسكو، وتحقيق قدر من التوازن مع الصين، فإنه ما زال غير قادر على تجاوز العقبة التى تمثلها بكين، فى إطار النجاح الذى حققته الأخيرة فى مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولى، مما دفع الإدارة الحالية إلى ممارسة سياسات من شأنها التضييق على الصين فى المرحلة الراهنة، وذلك للضغط عليها، وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات فى المستقبل القريب، مما يسهم فى زيادة شعبية بايدن وإدارته فى الداخل.