منذ فجر التاريخ، كانت مصر هى أرض الخير والخيرات؛ حيث اختصها المولى عز وجل بكثير من نعمه وكرمه بشكل واضح، كما ورد فى جميع كتبه السماوية؛ ولعل كثير من العلماء مثل "السيوطى والكندي" أكدوا على أنه لا يوجد بلد فى الأرض أثنى الله عليها فى القرآن الكريم مثل مصر، فهى بلد الزرع والأنهار والخير وبها خزائن الأرض من خيرات، وكانت دائما الزراعة المصرية مصدرا رئيسيا للخير ليس لمصر وحدها، بل كانت سلة غذاء لمن حولها، ويذكر "نابليون" فى مذكراته أن مصر قادرة على أن تستوعب أربعة أضعاف حجم سكانها، بل وقادرة على أن تكون سلة غذاء العالم، ولكن للأسف تراجع كل ذلك مع تراجع الزراعة المصرية فى العقود الأخيرة بشكل خطير.
معروف أنه على مدى آلاف السنين، ومنذ اللحظة الأولى التى امتلك فيها الإنسان فأسا يضرب بها الأرض ليحرث ويبذر ويحصد، منذ تلك اللحظة ظلت القرية المصرية مصدرا للإلهام والإبداع والعرق والإنتاج، وبقيت تمرر أيامها دون أن تكلف الحكومات الكثير من النفقات كالمدن والعواصم، ودون أن يبالغ مواطنوها فى مطالبهم من الخدمات والمصالح، حتى أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى عن المشروع الحلم، ليس لسكان الريف المصرى فقط، ولكن لكل أبناء الوطن، قرر الرئيس أن تمتد يد الدولة لمشروعات والاستثمارات فى جميع المحافظات، لتبدأ وتنتهى خلال ثلاث سنوات وبنفس البرامج وفى جميع مجالات التنمية المستدامة من حدود النقب شرقا حتى السلوم غربا، ومن ساحل المتوسط شمالا حتى حدود السودان.
ويأتى مشروع تطوير قرى مصر بعد أن أهملنا الريف المصرى طويلا وكبلناه للأسف بتلال من القوانين المجحفة التى أصبح الفلاح المصرى بموجبها وحيدا ومنفردا أمام بضعة محتكرين بدون حماية، ومن ثم فقد برزت أزمات كثيرة فى قلب الريف المصرى وعلى رأسها بالطبع أزمة الخدمات عموما قياسا بالمناطق الحضرية، وتعاظمت أكثر المشكلة فيما يخص خدمات الشرب والصرف الصحي، فأغلب المناطق الريفية لا توجد فيها شبكات للصرف الصحي، حيث تغطى نسبة 30% من المناطق الريفية فقط، بينما يعتمد الثلثان على أنظمة صرف أهلية، تهدد بانتشار الأمراض وانهيار المباني، وتؤثر فى الوقت نفسه على صلاحية مياه الشرب والري، وخصوصا فى المناطق البعيدة عن شبكات المياه، والتى مازالت تعتمد على المياه الجوفية.
وفى ظل كل هذا لابد أن تكثر الأمراض فى المناطق الريفية، وخصوصا التى تعرف بأمراض الفقر، وترتبط معظمها بتلوث مصادر المياه، وغياب شبكات الصرف الصحي، إضافة إلى أمراض سوء التغذية، ويتفاقم الوضع الصحى فى ظل تراجع الخدمات الصحية وتخفيض الصرف على الوحدات الصحية فى القرى، والاتجاه إلى بيع مستشفيات الأسرة، وعلى الرغم من التحسن فى ملف الصحة، إلا أن معدلات موت الأطفال فى الريف أعلى من المدن.
وما أدى لتفاقم الأزمة أكثر وأكثر فى الريف المصرى هو تغير أدوار الحكومات السابقة على 30 يونيو 2013 من تقديم العون للفلاحين إلى استغلالهم بشتى الطرق، عبر تحديد أسعار مرتفعة للأسمدة والبذور وأسعار منخفضة لشراء المحاصيل الزراعية، وترك الفلاحين فريسة للتجار، وقد كانت محصلة تلك السياسات تحول مصر إلى سوق استهلاكي، لا يوفر حتى أبسط المنتجات الزراعية من الخضر والفاكهة، ويقع الشعب المصرى ضحية مافيا الاستيراد التى تزداد ثراء على حساب تعمق أزمة الطبقات الشعبية العاجزة عن توفير احتياجاتها الأساسية، وبالإضافة إلى ذلك تحمل أزمة الزراعة الدولة المصرية أعباء على الموازنة نتيجة تغطية احتياجات السوق عن طريق الاستيراد.
إلى وقت قريب جدا كان يعد فقراء الريف من ضمن الفئات المنسية عن قصد، فلا يشملهم الخطاب الرسمي، ولا الخطاب الإعلامى التابع للسلطة، ومازالت الاهتمامات السياسية والأكاديمية بالريف محدودة، وتتجاهلها، فهى تنصب على المدن، بوصفها فاعلا سياسيا قويا، قياسا بالريف الذى تنخفض فيه معدلات المشاركة السياسية، وكذلك ينطلق التناول الرسمى والإعلامى لمشكلات الفقر من المدن وينتهى إليها، فيهمش الريفيين والفلاحين من مساحات النقاش داخل المجال العام.
والغريب أن هذا يأتى على الرغم من أن كثيرين من النخب السياسية والاقتصادية والثقافية هم من أبناء الريف، إلا أنهم حين يهجرون مناطقهم الريفية غالبا ما يهجرون الحديث عنها، كأنهم يهربون من معاناة عايشوها، بدلا من تناولها ومحاولة تغيرها، وهكذا يقذف الجميع مشكلات الريف والفلاحين، وكأنها كرات لهب ستحرقهم. وفى هذه الحالة، يتمدد الإهمال والتهميش المقصود للريف على خارطة لها أبعاد طبقية وجغرافية ومعرفية، إلى أن جاء "المشروع القومى لتطوير وتنمية القرى المصرية" الذى يأتى ضمن مبادرة "حياة كريمة" التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، فى 2 يناير عام 2019 لتحسين مستوى الحياة للفئات المجتمعية الأكثر احتياجًا على مستوى الدولة، ليشكل بادرة أمل جديدة فى غد أكثر إشراقا فى ريف مصر.
يستهدف هذا المشروع الذى يوليه الرئيس عناية خاصة التدخل العاجل لتحسين جودة الحياة لمواطنى الريف المصرى من خلال تطوير 4584 قرية يمثلون نسبة 58% من إجمالى سكان الجمهورية بتكلفة تقديرية 515 مليار جنيه، ووفقا لموقع رئاسة الجمهورية، يسعى المشروع لتقديم حزمة متكاملة من الخدمات تشمل خدمات المرافق والبنية الأساسية (الطرق والنقل - الصرف الصحى ومياه الشرب - الكهرباء والإنارة العامة - الغاز الطبيعى - تطوير الوحدات المحلية - الشباب والرياضة - الخدمات الصحية والتعليمية).
وعلى مستوى التنمية الاقتصادية فإن المشروع معنى بتوفير فرص عمل (إنشاء مجمعات صناعية - تأهيل مهنى - توفير مشروعات ذات عائد اقتصادى - تشغيل أهل القرية لبناء بيوتهم - تدوير مخلفات - تنمية زراعية وسمكية)، وعن طريق التدخلات الاجتماعية يهدف المشروع إلى توفير سكن كريم (محو أمية وتعليم - سكن كريم - حملات توعية وثقافية ورياضية وتأهيل نفسى واجتماعى - تجهيز عرائس وسداد ديون).
ومن خلال متابعتى على مدار الأيام القليلة الماضية وفور إطلاق المشروع، فقد لمست عن قرب أن العمل يجرى على قدم وثاق لخدمة أهالينا فى المناطق الريفية الأكثر تضررا، وقد استهدفت المرحلة الأولى من المشروع تنمية القرى الأكثر احتياجًا بإجمالى 375 تجمعا ريفيا، يشتملون على 5.4 مليون مستفيد بإجمالى استثمارات 13.5 مليار جنيه لتنفيذ 2180 مشروعًا، تم الانتهاء من 600 مشروع منها، وجارى تنفيذ 1580 مشروعًا، وتستهدف المرحلة الثانية من المشروع تنمية كافة المراكز الريفية بإجمالى 4209 قرية، بالإضافة إلى 30900 (تابع - عزبة - نجع)، ويجدر بالذكر هنا أنه يتم تنفيذ المشروع بإجمالى استثمارات 500 مليار جنيه، ويستفيد منه أكثر من 55 مليون مستفيد.
وبحسب الدكتور طارق الرفاعى معاون وزير الإسكان للمرافق والبنية التحية، فى حديثه لراديو مصر أمس: يبدأ تنفيذ المشروع بتنمية المراكز الأكثر فقرا على مستوى الجمهورية كمرحلة عاجلة، وتم حصرهم فى 50 مركزًا على مستوى 20 محافظة ويشتملون على 1391 قرية بالإضافة إلى 11087 عزبة وتابع، بإجمالى استثمارات 150 مليار جنيه، ويستفيد منها 18 مليون مواطن مصرى يسكنون هذه المناطق الريفية التى أقول أنها أهملت طويلا فى ظل حكومات متعاقبة ألقت على كاهل الفلاح المصرى تبعات لا يمكن تحملها فى ظل قوانين جائرة أدت بالضرورة إلى إفقاره ووقف نموه.
من أهم مزايا مشروع تطوير القرية المصرية، أنه سيسهم فى توفير عشرات الآلاف من فرص العمل، فضلا عن دوره فى تعميق وتوطين الصناعة المحلية، وهو مايظهر أن الدولة حريصة فى هذه اللحظة الحاسة فى تاريخ مصر على استمرار دعم ومساندة قطاع الصناعة فى مختلف المجالات، وهو ما أكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث أشار إلى أن التوسع ودعم الصناعة الوطنية، يعد واحدا من أهم أهداف مشروع تطوير القرى المصرية، مجددا التأكيد فى هذا الصدد على أن تنفيذ هذا المشروع سيعتمد فى مدخلاته ومتطلباته على الصناعة الوطنية، ولأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث ستجد كل قرية نصيبا عادلا من الخدمات المتنوعة فى البنية الأساسية والخدمات العامة ، وأيضا نصيبا عادلاً فى المشروعات الاقتصادية ليتحسن دخل أبناء القرى ويجدوا فرصاً للعمل الشريف المنتج، فضلا عن مشاركتهم الفعلية فى التفكير وترتيب أولويات المشروعات والخدمات التى تحسن أحوال مواطنى القرى .
لكن أبرز أهداف هذا المشروع العملاق هو إعادة بناء الإنسان المصرى فى الريف كغيره من أقرانه من أهل الحضر، وذلك ضمن مستهدفات "رؤية مصر 2030"، التى تتضمن الارتقاء بجودة حياة المواطنين المصريين، ليكون هناك عدالة فى توفير الموارد واندماج بين الريف والحضر، فدائما كان الريف يعانى من العديد من المشاكل، بالإضافة إلى العمل على إيجاد اقتصاد تنافسى ومتنوع قائم على المنافسة والتنوع والتحول الرقمي، وأن تحقق مصر بحلول عام 2030 مكانة كبيرة بين أكبر 30 دولة حول العالم، وتكون حياتنا قائمة على المعرفة والابتكار والبحث العلمى كركائز أساسية للتنمية، وتطبيق مبادئ الحوكمة لمؤسسات الدولة المصرية والقطاع الإداري، ومن ثم جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى بتنفيذ مشروع تطوير قرى الريف المصرى والذى يهدف إلى تغيير شامل ومتكامل التفاصيل، وبالتناغم بين كافة الأجهزة الحكومية المعنية لتطوير الريف المصري.
لقد أدرك الرئيس السيسى بحسه الإنسانى وإنطلاقا من قناعته الشديدة أنه لابد أن توفر العدالة الاجتماعية بين كل المصريين دون تمييز، وأن مشكلات الريف الاقتصادية والاجتماعية لا تنفصل عن الأزمة الاقتصادية العامة، لكنها وبحكم ارتباطها بنمط الإنتاج الزراعي، تتفاقم كلما تراجع نشاط هذا القطاع، والذى تعتمد عليه المناطق الريفية فى توفير فرص العمل والمحاصيل الغذائية، وبهذا التغيير الكارثى تزداد الهوة بين الريف والحضر، وتتسع معدلات الفقر، وينعكس ذلك على نمط الاستهلاك الذى يتسع فيه الإنفاق على الغذاء فى مقابل باقى البنود، وربما يرجع ذلك إلى أنه تتعدد أشكال الفقر وأنماطه فى الريف المصري، فإلى جانب الفقر النقدى المرتبط بمعدلات دخول العاملين فى قطاع الزراعة، هناك فقر الخدمات وتدنى مستوياتها. وهنا يبرز فقر الريف، بوصفه فقرا كليا ويشكل معاناة متعدّدة الأوجه.
ولأنه يضع عينه دوما على تجارب الدول من حوله فقد لمست عن كثب جدية الشعور والصدق فى الرؤية من جانب رأس الدولة ممثلة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى يضع فى اعتباره ضرورة الأخذ بأسباب العصر من جانبه تجاه مواطنيه، كما تجسد ذلك على أرض الواقع فى صورة تصريحات رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، حين قال أن هذه المشروعات القومية الكبرى التى تنفذها الدولة المصرية لم تأت من قبيل المصادفة أو الفكر التلقائي، ولكن كانت جميع هذه المشروعات نتيجة للأخذ بذات الفكر المنهجى العلمى الذى اتبعته العديد من الدول النامية، التى تشابهت ظروفها مع ظروف مصر، وحققت خلال العقود الأربعة الماضية طفرة وتنمية هائلة، مثل دول شرق آسيا، والتى بدأت بوضع رؤية شاملة للتنمية لديها، تترجمها على الأرض والخرائط إلى مُخطط إستراتيجي، وهذا المخطط تُنفذه الدول من خلال مجموعة من المشروعات القومية العملاقة، مُؤكدا أن هذا ما بدأته مصر من خلال وضع رؤية مصر 2030، بمجرد تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى المسئولية فى منتصف 2014، والتى كان لها مستهدفات واضحة تأكدت حاليا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة