أمران مثيران في كتاب"المرأة في السينما المغربية: خلف وأمام الكاميرا" الصادر مؤخراً للكاتب والناقد المغربي حسن نرايس؛ أولهما أنه ينقب بشكل ما في تاريخ السينما المغربية، والثاني تركيزه على المرأة كموضوع وكصانع، ما يعني أنه إجمالاً ينبش القديم ليصل إلى الحديث، المعاصر بأسلوب طَيِّع، لا يخلو من بعض المشاكسة والمجادلة التي لا تفقده مرونته، بل تمنح القاريء فرصة الاستمتاع باللعب مع الخيال الجامح، الطموح والمألوف أيضاً سواء في عملية صناعة السينما أو مع باحث يتعقب شواغله وهواجسه، ويفكك المعطيات حتى يعثر على نتائج تساعده في توثيق مضبوط ومتقن.
ما الذي يراهن عليه الكاتب حسن نرايس إذن، حين اختار أن يكتب عن المرأة والسينما في كتابه الجديد هذا؟.. سؤالي الرومانتيكي ليس عن الحنين، لكن عن السينما والمجتمع، ماذا سيحدث إذا تتبع الكاتب الخط الممدود من الأمس حتى اليوم؟ إلى أين ستقوده رحلة بحثه؟ هل سيجد روحًا تتفاعل مع أفكار حرة؟ هل كانت هذه الأفكار في الأصل حرة؟ هل هناك أو هنا ما يستحق الفضول؟
ذائقة حسن نرايس التي أدركتها في كتبه السابقة، وكذلك عبر أنشطته الثقافية المتعددة التي ينضوي فيها كصحفي وناقد وأديب، تتجلى هنا مرة أخرى وفق أسلوبه الجاد في البحث والذي يتسم برؤية متماسكة للواقع السينمائي المغربي وتفاصيله، هذا غير مقدرته على مقاربة الأفلام من حال المجتمع، مدعمة بتحليلات فنية مضيئة، من هذه النقطة تأت أهمية إصداره الأحدث، محاولاً إيجاد أجوبة لكل الأسئلة الجارفة، ما يعطي بعداً عميقاً لموضوعه وللحال السينمائي بشكل عام.
عشرون فيلماً إختارها "نرايس" من الفيلموجرافيا المغربية في قسمه الأول من الكتاب ليرصد خلالها المرأة كتيمة بارزة ورئيسية شغلت المخرجين المغاربة، وتعاملوا معها كصورة وموضوع يتوغل في متعرجات مجتمع معقد، حتى بدا أن ظهور المرأة على الشاشة سواء بشكل نمطي أو مبتكر، هو تكريس لنموذج مشدود بين طرفي معادلة جسيمة: الإنجاز الفني والحضور في الواقع. الطرفان بين أيدي مخرجين، رجال ونساء، جميعهم تناولوا المرأة كموضوع اجتماعي على نحو كبير مضطهد في مجتمع ذكوري يخضع للجهل والخرافة، وأيضاً دور المرأة المتمردة على واقعها كإشارة تنويرية للتغيير. على هذا الأساس أدرج الكاتب الأفلام، قديمة وحديثة من الفيلم الأقدم "الشركي" (1970)، الفيلم الأول الطويل لمخرجه مومن السميحي وما أثاره من سجال ثقافي حول هذه المرأة الملتاعة التي تحاول أن تمنع زوجها من الزواج للمرة الثانية من فتاة صغيرة السن، فتزور الأضرحة وتلجأ للسحر والشعوذة، إلى الفيلم الأحدث "أدم" (2019)، وهو أيضاً الفيلم الأول الطويل لمخرجته مريم توزاني ويتناول قضية الأمهات العازِبات في المغرب، مروراً بأفلام عبد القادر لقطع، سعد شرايبي، محمد عبد الرحمان التازي، محمد الركاب، حكيم النوري، الجيلالي فرحاتي، فريدة بليزيد، حسن بنجلون، نرجس النجار وآخرون، أعمال جريئة وأسماء تركت أثرها حتى ولو بفيلم واحد.
صور وحكايات وفيرة عن المرأة ما بين الفقر واليأس، "عرائس من قصب" (1981) إخراج الجيلالي فرحاتي مثالاً بين التعنيف والقهر والعلاقات الزوجية غير السوية، "نساء ونساء" (1998) إخراج سعد شرايبي مثالاً، إلى الجرأة والتمرد، حب في الدار البيضاء (1991) إخراج عبد القادر لقطع مثالاً آخر، وتتعدد الأمثلة التي يقدمها "نرايس" في كتابه، معتمداً على تحليله لاختيارات السينما المغربية في طرحها لهموم المرأة ما بين الواقعي والمتخيل، لنكتشف بدرجة من درجات التأمل، تحولات المرأة وتطوراتها حسب اعتبارها الاجتماعي.
في قسم آخر من كتابه، يتطرق "نرايس" لأسماء مخرجات عبر أجيال مختلفة من فريدة بورقية، فريدة بن اليازيد، نرجس النجار، ليلى المراكشي، ياسمين قصاري، ليلى الكيلاني، فاطمة جبلي الوزاني، طالا حديد، إلى خولة أسباب بن عمر، مريم بنمبارك، مريم توزاني.. لكل واحدة منهن أسلوبها في تقديم صنيعها البصري، المستمد من تجربتها المعرفية والفنية ومرجعيتها الثقافية والاجتماعية والعاطفية التي عبرت بها إلى الساحة السينمائية، محملة بطموحات تسعى من خلالها إلى تجاوز التصنيف والتموضع تحت لافتة السينما النسائية، وبينما يستدل الكاتب بأخريات آتيات في المستقبل القريب بعد إنجازهن لأفلام قصيرة واعدة، فإنه أيضاً يشير إلى الحضور اللافت والفاعل للمرأة كصانعة في السينما المغربية على مستويات غير الإخراج، إذ يتلقف أسماء وتجارب تعد نوعاً من القفزة غير المسبوقة لتقنيات ومنتجات ومديرات مهرجانات سينمائية وغيرهن من نساء السينما، بما يسمح بمناقشة دور المرأة في صناعة السينما بالمغرب من جوانب عديدة ومتنوعة، في ظل مناخ من الحريات العامة؛ إتسع مجاله في السنوات الأخيرة وساعد في اغتنام أكبر قدر من الجرأة، وإطلالة أسماء جسورة لديها القدرة بما يكفي للبوح والتطرق إلى موضوعات لا تطوي الواقع وهمومه، وتمتلك رغبة حقيقية في الكشف والنظر بعزيمة وإصرار نحو المستقبل.
بعد هذا الجرد الذي قدمه حسن نرايس في كتابه، مبيناً حجم الطفرة الكمية التي عرفتها سينما المرأة بالمغرب، بصرف النظر عن التصنيف النوعي والجنسي، نجد أنفسنا أمام كتاب يصوغ مساحة مهمة في السينما المغربية ثقافياً وجمالياً، بوعي يؤازر الاشتغال السينمائي والإبداعي، ويفيد أي دارس أو باحث كوثيقة ضرورية يمكن الاستعانة بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة