نلقى الضوء معا على كتاب "قلق السعى إلى المكانة" لـ الكاتب آلان دو بوتون، ترجمة محمد عبد النبى، والذى صدرت ترجمته عن دار التنوير، ويوضح أن سعينا لأن نكون محبوبين ومقدرين يتفوق على سعينا لحيازة أى شىء آخر، بل إن كل ما نقوم به يهدف إلى تحسين مكانتنا، وذلك أن موقعنا على درجات السلم الاجتماعى يلعب دوراً حاسماً فى حياتنا، لأن صورتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا، لكنه يتساءل أيضاً: هل يستحق البحث عن المكانة ان نقدم التضحيات؟
ويعد هذا الكتاب أغنى وأظرف وأكثر أعمال دو بوتون انتشاراً، يظهر لنا فيه مدى سعة معرفة وإطلاع صاحبه، ومدى وفرة وأناقة وأصالة أفكاره.
يقول الكتاب تحت عنوان "افتقاد الحب":
إنّ الدافع المهيمن وراء رغبتنا فى الارتقاء على درجات السلّم الاجتماعى قد لا يكون مرتبطًا بما نراكمه من سلعٍ مادية أو ما نحوذه من سُلطة، بقدر ما يرتبط بمقدار الحب الذى نتطلع لأن نتلقّاه نتيجة للمكانة العالية، فمن الممكن تثمين كلٍ من المال، والشهرة، والنفوذ بوصفها شارات رمزية للحب، ووسائل للحصول عليه، وليس كأهداف فى حد ذاتها.
كيف يمكن لكلمة، نستخدمها عمومًا فقط فى الإشارة لما قد نتوقّعه أو نتمناه من أحد الوالدين، أو من شريكٍ فى علاقة رومانسية، أن تَصْدُق على شىءٍ قد نريده من العالم ويمكنه أن يقدّمه لنا؟ ربما يمكننا تعريف الحب، فى أشكاله العائلية والجنسية والدنيوية معًا، كنوعٍ من الاحترام، حساسية من جانب شخص نحو وجود شخصٍ آخر، معنى إبداء الحب لنا أن نشعر أننا محط انشغال وعناية: حضورنا مُلاحَظ، اسمنا مُسَجّل، آراؤنا يُنصَت إليها، وعيوبنا تُقَابَل بالتساهل وحاجاتنا مُلباة، وفى ظل مثل تلك الرعاية ننتعش ونزدهر، قد تكون هناك اختلافات بين الحب الرومانسى والحب المعتمد على المكانة - فليس لهذا الأخير بُعد جنسي، ولا يمكن أن ينتهى بالزواج، ومَن يمنحوننا إياه غالبًا ما يحملون قيمةً ثانوية - ومع ذلك فإن المحبوبين بسبب المكانة، شأنهم شأن المحبوبين فى الغرام الرومانسى، سوف يشعرون بالأمان تحت النظرة الحانية لمَن يقدّرونهم.
من الشائع تسمية هؤلاء الذين يحظون بمواقع ذات شأن فى المجتمع "الأعلام"، ونقيضهم هُم "النكرات"، وكلتا التسميتين بالتأكيد وصف عديم المعنى، فجميعنا، بالضرورة، أفراد لنا هوياتنا المتمايزة ومطالبنا المماثلة من الوجود، وعلى الرغم مِن ذلك فتينك الكلمتين مجرّد أداتين جيدتين لنقل طريقتين متباينتين فى التعامل مع مجموعتين مختلفتين من الأشخاص، فمَن يفتقرون إلى المكانة غير مرئيين، يعامَلون بفظاظة، ما فى شخصياتهم من تميّز يُدهَس تحت الأقدام ويتم تجاهل خصائصهم الفريدة.
رغم أنه لا مناص من وجود عواقب اقتصادية للمكانة المتدنية، فإن أثرها ينبغى ألّا يُقرأ من الناحية المادية وحدها، نادرًا ما تكمن العقوبة القصوى فى محض المشقة البدنية، ما دامت فوق مستوى الحد الأدنى اللازم للاستمرار على الأقل، بل إن العقوبة القصوى تكمن غالبًا، وربما أوّلًا، فى التحدّى الذى تفرضه المكانة المتدنية على إحساس المرء باحترامه لنفسه، فمن الممكن تحمّل المشقّة البدنية لفتراتٍ طويلة دونما شكوى، ما لم تصحبها المهانة، وللبرهان على هذا ليس علينا سوى أن نلقى نظرة على مثال العديد من الجنود والمستكشفين ممن تسامحوا عن طيب خاطر، على مدى القرون، مع أشكال من البؤس والحرمان تفوق بمراحل كل ما يعانيه أفقر أفراد مجتمعاتهم، ما داموا مستندين - فى مواجهة كل تلك المصاعب - على إدراكهم للتقدير الذى يمنحهم إياه الآخرون.
وعلى المنوال نفسه، فإن فوائد المكانة العالية نادرًا ما تقتصر على الثروة، يجب ألا نُفاجَأ حينما نجد أن كثيرين من الموسرين بالفعل يواصلون مراكمة أموال لن يفنيها إنفاقُ خمسة أجيالٍ تالية عليهم، قد نعتبر مسلكهم غريبًا فقط إذا أصررنا على التبرير المادى وراء السعى لاكتساب الثروة، فبقدر ما يجمعون من مال، يسعون وراء الاحترام الذى يبدو مُستَمَدًا من عملية جمعه، قليلون منا قد يُعتَبرون بكل وضوح عشّاقًا للجمال والتَرف، ولكن جميعنا تقريبًا جَوْعى للمنزلة السامية؛ وإذا وُجدَ مجتمعٌ فى المستقبل يمنح الحُب مكافأةً على مراكمة أقراص بلاستيكية صغيرة، فلن يمر وقتٌ طويل قبل أن تكتسب تلك الأشياء عديمة القيمة مكانًا مركزيًا من مشاغلنا وطموحاتنا الأشد حماسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة