فوجئ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في مايو عام 1953، بطلب بدا غريبا للغاية من جانب وزير الخارجية الأميركي، آنذاك، جون فوستر دالاس، الذي اقترح أن "تقدم مصر بادرة حسن نية لمساعدة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، عبر تقليل إنتاج القطن المحلي طويل التيلة، لأنه ينافس نظيره المنتج في ولايات الجنوب الأميركي"، تلك الواقعة التي رواها كشاهد عليها، الصحافي الراحل الكبير، محمد حسنين هيكل، في حوارين تلفزيونيين، يقول إنها جعلت عبد الناصر (يفتح فمه) مذهولا من غرابة الطلب.
هذه الواقعة تؤكد أهمية محصول القطن المصري الذي كان يتمتع بسمعة عالمية، ومن هنا تنظر إليه القيادة السياسية باعتباره مشروعا استراتيجياً، خصوصاً بعد أن منحت قبلة الحياة للذهب الأبيض كي يستعيد عرشه، بوضع خطة للنهوض به وذلك بضخ 21 مليار جنيه تكلفة التطوير، و1.25 مليار دولار حجم الصادرات، ومن هنا فإن الحكومة تولى اهتماما كبيرا بزراعة القطن والعمل على عودته لمكانته العالمية واستعادة عرشه الملكى، من خلال تصور متكامل لمنظومة القطن بجميع محاورها الزراعية والتجارية والصناعية، وذلك بهدف تعظيم الاستفادة من الإمكانات المتاحة، وكذا المردود الناتج عن القطاعات ذات الميزة النسبية بالدولة لصالح الاقتصاد الوطني.
ولهذا بدأت الحكومة في اتخاذ خطوات جادة للتوسع في زراعة القطن، لسد احتياجات مصانع الغزل والنسيج، بزيادة المساحات المزروعة من القطن تدريجيا للوصول بها إلى مليون فدان سنويًا، وذلك تزامنا مع تطوير المحالج والمغازل، وتحفيز الفلاح على زراعته، بالإضافة إلى زراعة القطن في 3 مناطق في أراضى مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان، والالتزام بالحفاظ على جودة الصنف والعمل على زيادة الإنتاجية، وتشمل الخطة أيضا حظر نقل القطن المصرى من محافظة إلى أخرى، أو من مركز إلى آخر، حفاظا عليه من الخلط، وذلك للحفاظ على نقاوة البذرة.
الأمر المحزن أن مصر كانت قد فقدت على مدى العقود الثلاثة الماضية ريادتها في إنتاج وتصدير القطن عالي الجودة والمشهور عالميا، كنتيجة طبيعية للتغيرات الجغرافية التي طرأت على صناعات الغزل والنسيج، وتحولت هذه الصناعة من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا، مما أفقد الإنتاج المصري أسواقا كثيرة نظرا لأن كلا من الهند والصين تنتج ما يقارب 50% من الإنتاج العالمي للقطن طويل التيلة، وبعد كل تلك السنوات والتي تراجعت فيها المساحات المنزرعة بالقطن من مليوني فدان إلى أقل من 200 ألف فدان نجحت مصر في التقدم خطوة نحو ريادة جديدة في هذا المجال، وحققت رقمًا جديدًا في تصدير القطن المحلي خلال الموسم الزراعي 2018، بعدما نجحت بتصدير أكثر من 754.2 ألف قنطار متري إلى 24 دولة حول العالم، وبهذا بدأت مصر تستعيد مكانتها وذلك باعتبارها ثاني أكبر بلد مصدر للقطن (طويل التيلة) في العالم ، ويستخدم بشكل رئيسي في صناعة الأغطية الفاخرة، بعد الولايات المتحدة.
وجاء ارتفاع صادرات مصر من القطن بعدما أعلنت إنتاج 1.4 مليون قنطار من القطن طويل التيلة خلال الموسم الزراعي المنصرم، على أن تصدر نحو 80% منه إلى أسواق العالم، وتراهن مصر على القطن طويل التيلة في غزو أسواق بعض الدول، في ظل زيادة تميزه حسب المعايير الدولية المحددة للقطن، ورغم الأزمة التي وقعت مؤخرًا بين مزارعي القطن والحكومة؛ بعدما خفضت سعر المحصول إلى 2300 جنيه للقنطار الواحد، لكن ذلك لم يؤثر على زيادة المساحات المزروعة من القطن، والتي تجاوزت 330 ألف فدان على مستوى الجمهورية.
القطن المصري طوال تاريخه يقع في الصدارة من حيث صفات الجودة على مستوى العالم، وآخر تقرير للجنة الدولية الاستشارية للقطن، يؤكد أن القطن المصري من حيث الصفات الغزلية والجودة يحتل المرتبة الأولى، رغم تراجع المساحة والإنتاجية خلال السنوات الماضية، كما أن عملية انتقال صناعة الغزل والنسيج من أوروبا والتي كانت السوق الأساسي بالنسبة للقطن المصري إلى دول جنوب شرق آسيا، كان له تأثير كبير على تصدير القطن لأن الصين والهند تحديدا تنتجان ما يقارب نصف الإنتاج العالمي، وبذلك أصبحت الصناعة والإنتاج في جنوب شرق آسيا، وأدى ذلك إلى أن يفقد القطن المصري أسواقا كثيرة.
كما أن مصر طوال السنوات الماضية كانت تعتمد على بيع القطن (خام) غير مصنع، والمستورد كان دائما هو المستفيد من القيمة المضافة، لذلك كانت الأسعار ضعيفة ولا تستطيع الحكومة تعويض المزارعين بالسعر المجزي الذي يشجعهم على الاستمرار في الزراعة، لذا فقدنا جزء هائلا من الأراضي المزروعة بالقطن، لأنه كما هو معروف فإن القطن محصول مجهد للتربة، حيث يظل في الأرض لمدة ستة أشهر كاملة، ويعتمد عليه الفلاح في سد احتياجاته النقدية المؤجلة على ما يسمى بـ (الإيراد) بحسب التعبير الفلاحي السائد في القرى المصرية، فقد كان الفلاح في سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينات وحتى نهاية التسعينيات يؤجل تجهيز أبنائه وبناته للزواج على (الإيراد)، لذا كنا نزرع في العقود الماضية ما يقارب 2 مليون فدان وننتج أكثر من 13 مليون قنطار، ويتم بيعه للدولة التي تقوم بتصدير النصف والباقي يصنع محليا.
وخلال العقود الثلاثة الماضية فقد (الذهب الأبيض) بريقه لأسباب عديدة، أرجعها بعض المعنيين إلى اعتبارات سياسية، بينما رفض آخرون صبغها بصبغة السياسة وأرجعوا الأمر برمته إلى عوامل طبيعية والفشل الإداري محليا، وبعد إهمال منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، بدأت المحاولات المتعاقبة لاستعادة العرش المفقود، منذ 4 سنوات بإصدار قرار جمهوري بإنشاء مركز الزراعات التعاقدية، وينظم قانون (الزراعة التعاقدية) عمليات بيع الإنتاج الزراعي والحيواني أو الداجني أو السمكي الذي يتم استنادا إلى عقد بيع المنتج بالتوريد طبقا للكميات والأصناف والجودة والسعر، وغيرها من الشروط التي يتضمنها العقد، ويتم تسجيل عقود الزراعة التعاقدية متى طلب أي من الطرفين.
ولكن نظرا لأهميته الاستراتيجية فإن إصرار القيادة السياسية المصرية على عودة القطن لعصره الذهبي تجلت مؤخرا في توجيه رئاسى باتخاذ ما يلزم للنهوض واستعادة عرش القطن المصري، ومن ثم جمع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، الذراع الإعلامية لمجلس الوزراء المصري، كافة الموضوعات المنشورة في وسائل الإعلام المصرية المختلفة التي تتعلق بالقطن في الفترة من أبريل (نيسان) 2011 وحتى فبراير الماضي، وخلصت عمليات البحث والجمع والإحصاء إلى تقرير ضخم يضم مقترحات وتوصيات وملاحظات، ناقشها (مجلس الوزراء) مع المسؤولين، تمهيداً لإحداث تطوير ملحوظ في ملف (القطن المصري).
وأبرز هذه التوصيات أكدت على ضرورة تفعيل قانون الزراعات التعاقدية، حتى تنتهي أزمات التسويق للزراعات الاستراتيجية، وفي مقدمها القطن والذرة والأرز، وغيرها من الزراعات، مع تحديد جهات تسلّم المحصول، وتحديد أسعار الشراء قبل زراعة المحصول، حتى تستقر نفوس الفلاحين، وحثهم على زراعة المحصول بنفس الحماس الذي كان موجوداً من قبل، بالإضافة إلى تطبيق إصدار بطاقة الحيازة الإلكترونية، واشتملت المقترحات على إنشاء وزارة مستقلة للقطن ومنتجاته، ابتداء من الحلج، والغزل، والملابس، والبذرة ومستخرجاتها، وذلك لأنه سلعة استراتيجية، ومنتج عالمي مطلوب.
ومن هنا فإن توجه الدولة بمواصلة خطة الدولة للنهوض بمنظومة القطن المصرى وإعادته إلى سابق عهده واستعادة مكانته العالمية، من خلال التطوير المتكامل لمنظومة القطن بجميع محاورها الزراعية والتجارية والصناعية، إلى جانب زيادة المساحات المنزرعة لتلبية الاحتياجات الصناعية وتعظيم القيمة المضافة للقطن المصرى على المستوى الدولى، وكذلك لإقامة صناعات وطنية تعتمد على القطن المصرى توفر منتجات قطنية عالية الجودة بأسعار ملائمة للمواطنين، كل ذلك أعاد الثقة لدى الفلاح المصري في استعادة عرش الذهب الأبيض ولمعان بريقه من جديد.
ولقد لفت نظري في قلب تلك المبادرة الرئاسية تعليق الدكتور محمد سليمان، رئيس مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة المصرية، الذي قال: (إن الحكومة المصرية اتخذت خطوات جادة خلال السنوات الخمس الماضية)، مشيرا إلى أن (أفضل القرارات خلال الثلاثين عاما الأخيرة بشأن القطن المصري ما اتخذه الرئيس عبد الفتاح السيسي لإعادة المحصول إلى مكانته الطبيعية)، موضحا أن (دور المركز هو إنتاج الأصناف المتميزة طويلة التيلة فائقة النعومة، وأننا ننافس عالميا بالجودة وليس بكم الإنتاج)، وأكد سليمان في الوقت ذاته على أن استعادة عرش القطن المصري يعتمد على أضلاع ثلاثة، هم المنتج الذي يبحث عن الإنتاجية العالية، والتاجر الذي يبحث عن نسبة تصافي عالية، والوسيط والمصنع اللذان يبحثان عن جودة عالية، مضيفا أن دور مركز البحوث هو تحقيق المعادلة ثلاثية الأبعاد.
جدير بالذكر أن القطن المصري يعد العمود الفقري في حياة الفلاح، والقطن لمن لا يعلم، ليس مجرد شجيرة صغيرة تتوجها زهرة بيضاء كانت تنير حياة الفلاحين في العقود الثلاثة الماضية، وليست مجرد لوزة خضراء تتحول تدريجيا إلى اللون البني الداكن وهى تنبأ بنضج المحصول قبل بداية تفتحه، لكنها عبارة عن (مصنع متكامل) يدخل فى العديد من جوانب حياتنا، بل تكون سببا جوهريا في صنع حياة أفضل لكل المصريين، واللافت للنظر أننا لا نهمل أى شىء من هذه الشجيرات وما تعطيه لنا، إذ فيها الوبر الأبيض الذى يدير المحالج، ثم تنطلق المغازل وأنوال النسيج، بحيث يعمل بها ثلث القوى العاملة المصرية، وحتى بذرة القطن كانت عبارة عن مصنع يوفر لنا زيت الطعام، وكان زيت بذرة القطن يوفر لنا أكثر من 70% مما نستهلك من زيوت للطعام، وكنا نستخدم هذا الزيت (الفرنساوى) فى كل ما نأكل، أما بقايا عصر هذه البذرة فكان أفضل علف أو طعام نقدمه للأبقار والأغنام.. والدواجن والأسماك أيضاً.
في المضي عاشت الكثير من الصناعات على هذا القطن، وعرفنا مئات المصانع تقوم عليه من المحالج ثم وحدات غزل ونسج القطن وصباغة الملابس القطنية ومعاصر الزيوت، بل نشطت عمليات النقل النهرى ثم البحرى وسمعنا كيف اشتهرت مصانع عريقة فى إنجلترا فى مدن "لانكشاير ويوركشاير"، وعرفنا فى مصر مدناً صناعية شهيرة قامت على استخدام هذا القطن مثل "المحلة الكبرى وكفر الدوار وكفر الزيات ودمياط وشبرا الخيمة والإسكندرية"، وغيرها، وكان عمال هذه الصناعات هم أفضل عمالنا من حيث مستوى المعيشة، وعرفنا ما أطلقنا عليه اسم: المدينة المصنع، أو المصنع المدينة، إذ قامت عليه مدن كاملة كانت أفضل ما نملك، من أيام محمد على باشا.
إنها باختصار "شجرة مباركة" .. هى الشجرة الكاملة التى لو عدنا إلى زراعتها، كما يجب، فسوف نقلل - إلى حد كبير - من حجم ما نخصصه لاستيراد احتياجاتنا منها.. رحم الله زمان وأيام زمان حين كنا نحتفل بتتويج ملكة القطن حين كان العمود الفقري في حياة الفلاح المصري والجدار الذي يستند إليه في الشدائد والأزمات !!.
ومن هنا فإن توجه الدولة بمواصلة خطة النهوض بمنظومة القطن المصرى وإعادته إلى سابق عهده واستعادة مكانته العالمية، من خلال التطوير المتكامل لمنظومة القطن بجميع محاورها الزراعية والتجارية والصناعية، إلى جانب زيادة المساحات المنزرعة لتلبية الاحتياجات الصناعية وتعظيم القيمة المضافة للقطن المصرى على المستوى الدولى، وكذلك لإقامة صناعات وطنية تعتمد على القطن المصرى توفر منتجات قطنية عالية الجودة بأسعار ملائمة للمواطنين، كل ذلك أعاد الثقة لدى الفلاح المصري في استعادة عرش الذهب الأبيض ولمعان بريقه من جديد.
ولقد لفت نظري في قلب تلك المبادرة الرئاسية تعليق الدكتور محمد سليمان، رئيس مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة المصرية، الذي قال: (إن الحكومة المصرية اتخذت خطوات جادة خلال السنوات الخمس الماضية)، مشيرا إلى أن (أفضل القرارات خلال الثلاثين عاما الأخيرة بشأن القطن المصري ما اتخذه الرئيس عبد الفتاح السيسي لإعادة المحصول إلى مكانته الطبيعية)، موضحا أن (دور المركز هو إنتاج الأصناف المتميزة طويلة التيلة فائقة النعومة، وأننا ننافس عالميا بالجودة وليس بكم الإنتاج)، وأكد سليمان في الوقت ذاته على أن استعادة عرش القطن المصري يعتمد على أضلاع ثلاثة، هم المنتج الذي يبحث عن الإنتاجية العالية، والتاجر الذي يبحث عن نسبة تصافي عالية، والوسيط والمصنع اللذان يبحثان عن جودة عالية، مضيفا أن دور مركز البحوث هو تحقيق المعادلة ثلاثية الأبعاد.
جدير بالذكر أن القطن المصري يعد العمود الفقري في حياة الفلاح، والقطن لمن لا يعلم، ليس مجرد شجيرة صغيرة تتوجها زهرة بيضاء كانت تنير حياة الفلاحين في العقود الثلاثة الماضية، وليست مجرد لوزة خضراء تتحول تدريجيا إلى اللون البني الداكن وهى تنبأ بنضج المحصول قبل بداية تفتحه، لكنها عبارة عن (مصنع متكامل) يدخل فى العديد من جوانب حياتنا، بل تكون سببا جوهريا في صنع حياة أفضل لكل المصريين، واللافت للنظر أننا لا نهمل أى شىء من هذه الشجيرات وما تعطيه لنا، إذ فيها الوبر الأبيض الذى يدير المحالج، ثم تنطلق المغازل وأنوال النسيج، بحيث يعمل بها ثلث القوى العاملة المصرية، وحتى بذرة القطن كانت عبارة عن مصنع يوفر لنا زيت الطعام، وكان زيت بذرة القطن يوفر لنا أكثر من 70% مما نستهلك من زيوت للطعام، وكنا نستخدم هذا الزيت (الفرنساوى) فى كل ما نأكل، أما بقايا عصر هذه البذرة فكان أفضل علف أو طعام نقدمه للأبقار والأغنام.. والدواجن والأسماك أيضاً.
في المضي عاشت الكثير من الصناعات على هذا القطن، وعرفنا مئات المصانع تقوم عليه من المحالج ثم وحدات غزل ونسج القطن وصباغة الملابس القطنية ومعاصر الزيوت، بل نشطت عمليات النقل النهرى ثم البحرى وسمعنا كيف اشتهرت مصانع عريقة فى إنجلترا فى مدن "لانكشاير ويوركشاير"، وعرفنا فى مصر مدناً صناعية شهيرة قامت على استخدام هذا القطن مثل "المحلة الكبرى وكفر الدوار وكفر الزيات ودمياط وشبرا الخيمة والإسكندرية"، وغيرها، وكان عمال هذه الصناعات هم أفضل عمالنا من حيث مستوى المعيشة، وعرفنا ما أطلقنا عليه اسم: المدينة المصنع، أو المصنع المدينة، إذ قامت عليه مدن كاملة كانت أفضل ما نملك، من أيام محمد على باشا.
إنها باختصار "شجرة مباركة" .. هى الشجرة الكاملة التى لو عدنا إلى زراعتها، كما يجب، فسوف نقلل - إلى حد كبير - من حجم ما نخصصه لاستيراد احتياجاتنا منها.. رحم الله زمان وأيام زمان حين كنا نحتفل بتتويج ملكة القطن حين كان العمود الفقري في حياة الفلاح المصري والجدار الذي يستند إليه في الشدائد والأزمات !!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة