حين يرتدى الجهلة ثوبَ العلماء، ثم يتحدثون إلى العامة بلسان خدّاع، مظهرين مدحا لكتاب الله عز وجل، وحرصا على تطبيق منهجه والعمل بمقتضاه، يكون الهدف من ذلك تخدير العوام قبل التسلل إلى عقولهم لدس أكاذيب، هى محضُ سم زعاف غلف بكثير عسل، ومن هؤلاء الذين يقولون نحن مع كتاب الله، نؤمن بكل ما فيه وهو يكفينا، إذ إنه المصدر المحفوظ من التبديل والتحريف دون سواه، فى إشارة منهم إلى عدم الاعتداد بالسنة كمصدر للتشريع، فانتهى هؤلاء إلى إنكار كثير من المعجزات التى حملتها نصوص السنة الصحيحة، ووصل بهم الأمر إلى القول بأن الصلوات المفروضة تنحصر فى صلاتى الصبح والعشاء، وهذا التخريف لا يقول به إلا منكر للقرآن الكريم، وإن ادعى إيمانه به، فلو كان مؤمنا حقا بكتاب الله، لآمن بالسنة، ولسنا بحاجة للدخول فى جدل حول نصوص من السنة تدل على كونها مصدرا للتشريع، ففى كتاب الله تعالى ما يكفى من الأدلة على حجية السنة ووجوب العمل بها، من ذلك قوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى»، فالآية الكريمة تنطق بما لا يدع مجالا للشك، أن جميع ما يصدر عن النبى سواء وجدناه بين آيات كتاب الله، أو لم نجده، وهو سنته صلى الله عليه وسلم، قولية كانت أو فعلية أو تقريرية، فأوامره عليه الصلاة والسلام ونواهيه كلها واجبة الاتباع كالذى جاء به كتاب الله، وفى كتاب الله «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..»، ذلك أمر مباشر بالأخذ بسنة النبى الكريم، أمر يوجب اتباع كل ما أتانا حضرته صلى الله عليه وسلم من قرآن وسنة، الأمر فى الآية للوجوب وذلك لخلوه عن القرينة الصارفة عن الوجوب، ومثله قوله عز وجل: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..»، فقبولنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أكان مأخوذا من آيات نعرفها، أو كان توجيها نبويا، يُعدُّ شرط إيماننا، وعدولنا عنه ترك للإيمان، أليس فى كتاب ربنا: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، فكيف نطيع الرسول ونترك سنته بما فيها من أوامر ونواهٍ؟! أليس فيه: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا»؟!
إن ما يردده هؤلاء الجهلة عن السنة، ليس بجديد، وإنما هو قديم قدم عقول التشبيه والتخريف، فلم يخل منه عصر من العصور التى مر بها إسلامنا، وشبههم التى يستندون إليها ستظل هى إياها، وستبقى أوهى من بيت العنكبوت، فيقولون مثلا: إن فى كتاب الله حكما على كل شىء، فلا حاجة لنا بمصدر آخر، ويستدلون بمثل قوله: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا»، ويغفل هؤلاء الجهلة عن أن المراد بالكتاب فى الآية، هو صحيفة عمل الكافر، والتى يتسلمها بشماله أو من وراء ظهره، وحين يراها مسودة بجرائمه التى سطرت فيها يتمنى أن لو كان بعضها قد سقط منها، وهو ما يظهر من السياق بجلاء، وليس المراد بالكتاب القرآن الكريم، ومن شبههم التى تتطاير بها ألسنتهم، فهمُهم السقيم لقوله عز وجل: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»، على أن المقصود منه أن كتاب الله فيه حكم كل شىء، وهذا فهم خاطئ، إذ المعنى كما ذكره المفسرون، ومنهم «ابن كثير»: «أن علم ربنا بكل هذه المخلوقات وكل شأنها مكتوب مثبَت فى هذا الكتاب»، قال ابن كثير: وَقَوْلُهُ: «مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ» أَى: الْجَمِيعُ عِلْمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يَنْسَى وَاحِدا مِنْ جَمِيعِهَا مِنْ رِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَرِّيّا أَوْ بَحْرِيّا»، وعلى فرض صحة زعم هؤلاء بأن كتاب الله فى الآية هو القرآن الكريم، وأنه فيه حكم كل شىء، فإن ما يناسب واقعه هو أصول الأحكام دون تفاصيلها، وإلا فعلى هؤلاء أن يخرجوا لنا من الكتاب الصلوات المفروضة بأسمائها التى نعرفها، وعدد ركعاتها، وأركانها، وسننها، وسرها وجهرها، وحكم من ترك ركنا من أركانها أو سنة من سننها، وعليهم أن يخرجوا لنا نصاب الزكاة الذى إن بلغه المال تعلقت به الزكاة سواء كانت زكاة مال أو حيوان أو زرع أو ثمار، وكذا المقدار الواجب إخراجه من هذه الأموال، وعليهم أن يخرجوا لنا من كتاب الله صدقة الفطر ووقت وجوبها ومقدارها، وعليهم ذكر الآيات التى تشرح كيفيّة الحج من بداية الإحرام حتى التحلل الأكبر، وحكم من ترك ركنا من أركانه، بل عليهم إخراج الدليل على أنه لا يجب على المسلم الحجُّ فى العمر إلا مرة واحدة، وليُخرِجوا لنا صريح الطلاق وكناياته، والبدعى والسنى وأحكامهما، وجلد شارب الخمر، وغير ذلك كثير جدا من أحكام حملتها نصوص السنة المطهرة ولا يمكن استخراجها من آيات كتاب الله، فمن المعلوم أن السنة المطهرة تفصل الأحكام المجملة فى كتاب الله، وتنشئ أحكاما لا وجود لها فى كتاب الله.
أما تذرع هؤلاء بأن السنة المشرفة قد دخلها الوضع والتحريف، فهى غير محفوظة بخلاف كتاب الله، فهى حجة ساقطة، كان يمكن أن يلتفت إليها لو أن هذا الوضع بقى مدسوسا بين نصوصها الصحيحة، لكن من له أدنى صلة بالعلم الشرعى، يعلم أن العلماء انبروا للتصدى لهذا العبث بالسنة، وسلكوا فى ذلك مسالك متعددة، فدرسوا أحوال الرواة، وابتكروا علوم المصطلح والجرح والتعديل وتراجم الرجال، كما فصلوا الموضوع والضعيف عن الصحيح والحسن، فجعلوا كل نوع منها فى كتب منفصلة، وردوا أحاديث لمجرد اختلافهم فى الحكم على الراوى، كما وضعوا أوصافا دقيقة وصارمة للمتن المقبول، لذا فإن هذه الشبهة لمنكرى السنة ساقطة كوجوههم، فقد دلل علماؤنا بهذا الجهد على أن السنة محفوظة كالقرآن، فليس المقصود بحفظ القرآن من التحريف أن وقوع التحريف فيه غير ممكن بداية، بدليل أن محاولات المبطلين لذلك تقع ثم يُكشف من آن لآخر عن عبثهم بمحاولة ترويج مصاحف مزيفة، فالمراد بحفظ كتاب الله، أن التحريف إن وقع فيه، سرعان ما يزاح الستار عن فاعله، ويرمى به إلى الهاوية، ويستحيل أن يبقى، وهذا هو ما ثبت للسنة بما سبقت الإشارة إليه من جهود علمائها، ولست أدرى هل انتبه أو قصد أولئك الطاعنون فى السنة أن منهجهم هذا تشكيك فى القرآن الكريم نفسه؟! فمن الطريق الذى أوصل القرآن إلينا هو مما أوصل السنة إلينا وهو طريق التواتر، الذى جاء لنا بالصحيح من السنة، فهل ينوى هؤلاء الانتقال من جحد السنة والتشكيك فى سلامتها إلى التشكيك فى القرآن الكريم نفسه، لأننا لم نسمعه بل لم يجمع فى مصحف فى عهد الرسول ؟! فليتق الله هؤلاء إن كانوا يؤمنون به، ويوقنون بالوقوف بين يديه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة