انسحب نابليون بونابرت بجيوشه من مصر عام 1801، لكنه اتخذ مهمة أكبر وأكثر خطورة، وكانت قيامه بترتيب الحكم فى مصر، عبر مخطط كانت كلمة السر فيه شخصية «ماتيو»، حيث قام «بونابرت» بتكليفه بمهمة رسمية وأخرى سرية، حسبما يذكر الدكتور على الحفناوى فى كتابه «تاريخيات مصرية».
كانت المهمة الرسمية التى يذكرها «الحفناوى»: تعيين «ماتيو» يوم 7 مارس، مثل هذا اليوم، 1803، مفتشا عاما على الشؤون الفرنسية فى مصر، ومندوبا خاصا للشؤون التجارية فى دمياط، وبهذه الصفة أصبح أول ممثل رسمى للحكومة الفرنسية فى مصر قبل عصر القناصل والسفراء، أما المهمة السرية فكانت أكبر وأكثر خطورة، لكنها ظلت سرية حتى لا يكشفها الإنجليز.
اندفع «بونابرت» إلى مهمته، فى سياق سياسى يذكره «الحفناوى»، قائلا: عدم رضوخه «بونابرت» لهزيمة أسطوله من الإنجليز فى «أبوقير» يوم 8 مارس 1801، ورفضه أن تعود الأمور فى مصر بيد القوات العثمانية أرضا، أو القوات الإنجليزية بحرا، وكانت مصر دولة تعيش فى العصور الوسطى يتنازعها أشلاء المماليك المتحاربة فيما بينهم من جانب، وبعض القوات العثمانية التابعة لدولة الخلافة الضعيفة والمنهكة من جانب آخر، ومع كل هذا فإن «بونابرت» كان منبهرا بالحضارة المصرية القديمة التى اكتشفها عند قدوم حملته، وزادت من قناعته بأن مصر أحق من تركيا فى تولى ريادة الخلافة الإسلامية، بما يستلزم نقل عاصمة الخلافة من استنابول إلى القاهرة.
وضع «نابليون» خطة لتنفيذ تصوراته الاستراتيجية بأن كلف «ماتيو» بالبقاء فى مصر، والعمل سرا على استكشاف شخصية قائد عسكرى يصلح أن يكون زعيما ورئيسا للمصريين، وفى ذات الوقت تكون علاقته بفرنسا متميزة بحيث يضمن تبعية مصر للسياسة الفرنسية وليس الإنجليزية.. يؤكد الحفناوى: «بالطبع كان من الضرورى عند اختيار مثل هذا القائد إقناعه بالخطة الفرنسية بالكامل، مع تقديم كل سبل المعاونة العسكرية والمدنية ومختلف سبل الدعم السياسى، حتى ينجح فى مهمة قيادة مصر وتحويلها إلى عاصمة للخلافة الإسلامية».. يضيف الحفناوى: «من الواضح أن غرض نابليون الأساسى لم يكن دعم مصر لتكون دولة عظمى على حساب تركيا، إنما لتكون دولة خاضعة لفرنسا على حساب بريطانيا ونفوذها فى الشرق».
بدأ «ماتيو» فى تنفيذ خطته السرية، ويرصدها «الحفناوى» قائلا: «اقترب من التنظيمات الشعبية والوطنية التى كان يسيطر عليها شيوخ الأزهر المتحدث باللغة العربية الفصحى، حتى أنه أوجد صلة صداقة حميمة مع بعضهم مثل «عمر مكرم»، ومن جانب آخر وقع اختياره على قائد من قوات الأرناؤط التابعة للجيش العثمانى، واستشف فيه مواصفات الزعامة لمصر فى المستقبل القريب، وكان محمد على هذا القائد، وقام بتقديمه لشيوخ الأزهر، موضحا لهم أنه سيكون الوحيد القادر على التخلص من المماليك داخليا وخارجيا وصد الهجمات الخارجية سواء من الأتراك أو الإنجليز.
فى نفس الوقت أخطر «ماتيو» نابليون باختياره ووجهه إلى ضرورة قيام فرنسا بدعمه «محمد على» رسميا لدى السلطان العثمانى.. يؤكد الحفناوي: «بالفعل قام القنصل العام الفرنسى فى تركيا السيد «سيباستيانى» بإقناع السلطان العثمانى بضرورة تعيين محمد على كوالٍ لمصر، لأنه الوحيد القادر على وقف الفوضى العارمة فى البلاد، وإعادة التحكم فى شؤونها، وصد هجمات الإنجليز التى تهدف إلى احتلال مصر، ومنذ تلك اللحظة نمت علاقة حميمية بين «محمد على» و«ماتيو» الذى ترك مهمته فى مصر عام 1805، وبعدها بشهور وقع السلطان العثمانى على فرمان تعيين محمد على واليا لمصر.
يذكر «الحفناوى» أن «ماتيو» تدرج فى وظائفه الدبلوماسية حتى انتهى به الحال فى وظيفة قنصل عام فى تونس عام 1827، وواصلت فرنسا دعمها لمحمد على سواء بإرسال البعثات العلمية والمستشارين، واحتفظ محمد على بعلاقة وطيدة وحميمة مع «ولى نعمته» السيد ماتيو، حتى أنه بعد وفاته طلب تعيين ابنه فى عمل قنصلى بمصر وفاء لهذا الصديق الذى جعل منه واليا على مصر، فجاء ابنه «فردينانيد ديلسيبس» للعمل كنائب لقنصل فرنسا بالإسكندرية، وفتح له محمد على أبواب قصوره بل كلفه بمهام شخصية، كان أشهرها تدريب ابنه «محمد سعيد» على ركوب الخيل بهدف تخفيض وزنه الزائد، ومن هنا ولدت العلاقة الحميمة التى نشأ منها فرمان شق قناة السويس.
يؤكد الحفناوى، أنه قال لحفيد ديلسيبس: «إن دور جدك الأكبر ماتيو كان أهم تاريخيا فى مصر من دوره ابنه فرديناند، فمشروع قناة السويس بدأه نابليون، ومشروع مصر الحديثة».