في اليوم العالمي للمرآة...من الواجب والمفروض أن نحتفى ونحتفل بكل فخر واعتزاز بالنماذج المشرفة للمرآة المصرية مع بداية عصر التحرر والنهضة في بداية القرن الماضى.. وعلينا أن ننعش الذاكرة المصرية بقصص وحكايات العطاء والتضحية والبذل لسيدات وفتيات مصر حتى تدرك الأجيال الحالية الدور الوطنى للأم والأخت والزوجة على مر تاريخ مصر الحديث والمعاصر حتى نالت حقوقها السياسية وبلغت أعلى المناصب وأصبحت وزيرة وقبلها بسنوات أصبحت سفيرة.. وصارت مضربا للأمثال في التباهي والتفاخر.
واحدة من هؤلاء العظيمات الماجدات " السفيرة عزيزة" والتي قد لا يعرف عنها الكثير شيئا الا من خلال الفيلم العربي الشهير التي لعبت بطولته سعاد حسنى مع شكرى سرحان وعدلى كاسب وإخراج طلبة رضوان عام 61 ... وهو لا علاقة له بالقصة الحقيقية الا الاسم فقط
السفيرة عزيزة الحقيقية التي أصبحت مضربا للأمثال في مجتمع المرآة المصرية والعربية بالقول" انتي هاتعملى فيها السفيرة عزيزة".. وتسببت في انتشار اسم عزيزة في مصر والعالم العربي خلال فترة الخمسينات والستينات على عدد كبير من مواليد تلك الفترة من الفتيات.
اسمها عزيزة سيد شكرى دحروج من مواليد 1919 فى قرية ميت يعيش مدينة "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية وسماها والدها طبيب النساء والولادة الدكتور سيد باسم جدتها لأبيها الحاجة عزيزة، وتمسك والدها بتعليمها رغم الظروف الصعبة والتحديات التي واجهة الأم التي أصيبت بمرض الزهايمر ولم تعد قادرة على رعاية أطفالها الخمسة، عزيزة وعصمت ومحمد وحسين وليلى. وهنا تعلمت عزيزة التي لم تكد تبلغ العاشرة من عمرها الدرس الأول من والدها الذي وقف الى جوار زوجته وتفانيه رغم انشغاله بعمله وبأطفاله في توفير سبل الراحة والعلاج لها. فتحملت المسئولية في سن مبكرا فصارت الأم الصغيرة لأربعة أشقاء منهم حسين الذي ولد مصابا بالصمم مما زاد من المسئولية على الأم الصغيرة ...عزيزة
كان ذلك هو الدرس الأول في العطاء والتضحية وتحمل المسئولية الذى تعلمته من الأب، الجهد والعطاء في البيت والاجتهاد في الدراسة، فقد واصلت دراستها بتشجيع من الأب في عشرينات القرن الماضي حتى تخرجت من مدرسة" الأم المقدسة"، بعد قضاء سنوات الدراسة الخمسة ملتزمة بمناهجها المعتمدة على اللغة الفرنسية دون غيرها، ثم تلتحق بعد ذلك بالكلية الأمريكية وكانت سيطرة اللغة الإنجليزية على مناهجها، هى العقبة التى كادت تفسد سعادة “عزيزة” بالدراسة بها . .فظلت تتنقل من فصل الى آخر متسلحة بروح “التحدي ” ،وقضت الليالى ساهرة على كتب تعلم اللغة حتى أتقنتها..
الدرس الثاني في حياة عزيزة انه لم يغب عن بالها طوال الوقت. المعركة التى خاضها والدها، وشجاعته فى مواجهة الاعتراضات التى واجهها لتعليم بناته الثلاثة اللاتي أصبحن الطالبات المصريات الوحيدات اللاتي التحقن بالتعلم المختلط فى الكلية الأمريكية هو ما زادها فخرا بأبيها التي قالت عنه في كتابها "حج الروح": "أبويا هو السبب فى دخولي الكلية، وكان عنده فكرة مهمه عن المرأة ودورها، لدرجة أنه كان بيزعل جدا من فكرة سيطرة المجتمع الذكوري عليها. وكان مناصرا للمرأة من الطراز الأول"
تخرجت عزيزة من الكلية الأمريكية عام 1942 وجذبها العمل الاجتماعي وتطوعت للعمل في الجمعيات الخيرية. وبدأت من نادى سيدات القاهرة محطتها الأهم في العمل الاجتماعي وتعلمت كيفية إدارة جماعة ودراسة احتياجات المجتمع على خلاف باقي الجمعيات التي كانت قائمة على جمع التبرعات، وتقديمها للمحتاجين...ولاننسى ان كل ذلك قبل قيام ثورة 23 يوليو 52 وانحيازها للمرة اجتماعيا وسياسيا.
تزوجت عزيزة عام 45 من أحمد بك حسين – وهو اول سفير لمصر في الولايات المتحدة الأمريكية عقب ثورة يوليو- كان شخصية لامعة في مجال العمل التعاوني والمجتمعي واعتبرته عزيزة أستاذا لها .. وكان هو النموذج المبهر الثانى في حياتها بعد الأب
بعدها بعامين وقبل قيام ثورة يوليو بعام واحد بدأت الانطلاقة الكبرى للزوجين، ووضع أحمد بك حسين-الزوج- اللبنة الأولى لوزارة الشئون الاجتماعية في مصر من خلال جمعيته التي أطلق عليها " مصلحة الفلاح"، وانطلقت عزيزة بدعم زوجها للعمل في الريف مع الفلاحات للتعرف الى مشاكلهن ومساعدتهن وأسست أول دار حضانة في قرية سنديون بالقليوبية وهى اول حضانة في الريف المصرى للاهتمام بالأطفال وتحسين صحتهم ورعايتهم وانتشرت الفكرة في عدد كبير من القرى بفضل السفيرة عزيزة
في مايو 51 تم اختيار احمد حسين بك وزيرا للشئون الاجتماعية في حكومة النحاس لكن بعض الكتابات التي وصفته " بالوزير الأحمر" –أي انتسابه للفكر الشيوعي وأفكاره الاجتماعية التقدمية- ومنها كتابات موسى صبري دفعته للاعتذار عن المنصب ليكمل مسيرته في العمل الاجتماعي بعيدا عن المناصب.. حتى أنه أعتذر عن شغل منصب مساعد الأمين العام للآمم المتحدة. من أجل رعاية والدته المريضة. وبعدها سافر مع زوجته الى الولايات المتحدة الأميريكية بناءا على دعوة من منظمة الأمم المتحدة ، وكان “أحمد ” مدعوا لدراسة التنمية الريفية في دول الكاريبي والمكسيك،
وتحصل عزيزة على لقب السفير بصفتها خبيرة إجتماعية وكأول سيدة من المنطقة العربية تجوب الولايات المتحدة الأميركية ودول العالم لإلقاء محاضرات عن العمل الاجتماعى بصفتها الدولية.
سافرت عزيزة بمفردها لالقاء محاضرات عن التنمية البشرية والعمل الاجتماعي في حوالى 40 ولاية أميريكية وحققت شهرة واسعة.. وتحدثت الصحافة الأميركية والعالمية عن " السفيرة عزيزة" أول مصرية وعربية في العمل الاجتماعي
أثناء جولتها قامت ثورة يوليو وفرحت بها السفيرة عزيزة وعبرت عن سعادتها بها خاصة في ظل حديث الصحافة الأميركية عن الصورة السلبية للملك فاروق كحاكم فاسد غارق في نزواته وهو ما تسبب في احراج شديد لها كلما سئلت عنه في وسائل الاعلام.. فجاءت ثورة الإنقاذ لها
حماس “عزيزة ” لثورة يوليو ومبادئها ظهر فيما بعد عندما قدمت محاضرة بإحدى كليات بيتسبرج بولاية بنسلفانيا حول التغييرات في مصر. وتحدثت بطريقة إيجابية جدا .وأكدت إنها متفائلة بشأن المستقبل.وقناعتها بتغير الأوضاع الاجتماعية في البلاد..وإن ما تطرحه الثورة لإصلاح قانون الأراضي .والبحث عن حل لمشاكل الضرائب التصاعدية. وإنشاء التعاونيات الزراعية. ومشاريع الإسكان .وزيادة أجور العمال الزراعيين..وفي اليوم التالي نشرت الصحف الأمريكية تفاصيل المحاضرة. وأرسل رئيس مجلس الكلية الأمريكية برقية للرئيس محمد نجيب يؤكد له فيه أن “عزيزة ” نجحت فى تمثيل مصر بإمتياز وقدمت صورة وافية وراقية عن بلدها.
فى أكتوبر 1952 كانت نجاحات الزوجين تسبق وصولهما إلى القاهرة، هو مادعا الرئيس جمال عبد الناصر لترشيح أحمد حسين لتولى منصب وزير الشئون الإجتماعية..وتوسط لإقناعه وزير الاوقاف وقتها الشيخ حسن الباقورى والكاتبان مصطفى وعلى أمين..وزاد من قناعتهم به ماعرف عن دوره الإصلاحى وتصديه لمظاهر الفساد بالفترة القصيرة التى قضاها عند توليه الوزارة لأول مرة.فى عهد الملك فاروق..بالإضافة لما يتمتع به من تقدير عالمى واسع .. ولكن الوساطات لم تفلح فى منع إعتذاره..ورد على الترشيح حسبما تقول "السفيرة عزيزة ” فى مذكراتها بقوله لناصر” أنتم لديكم السلطة ونحن كمدنيين علينا مسئولية وكل له دوره”. .ثم تفسر رؤيتها للقرار فتقول بمذكراتها .."ان زوجها كان يعرف أنه لن يكون قادرا على قبول هذه الازدواجية بين السلطة والمسئولية”
الاعتذارلم يؤثر مطلقا على ثقة “ناصر” بأنه أمام رجلا تحتاجه مصر فى تلك الفترة..ولهذا طلب منه المساعدة فى حث الولايات المتحدة على لعب دورا فى الضغط على بريطانيا للحصول على إلتزامها بالإنسحاب من منطقة قناة السويس..وبالفعل نجح أحمد حسين وقتها فى ترتيب لقاءا بين “ناصر ” والسفير الامريكى في القاهرة وكانت نتائج الإجتماع الإيجابية..السبب الرئيسى أن يخرج منه الزعيم المصرى بإصرار أن الأفضل فى تلك المرحلة الحساسة بالذات لتولى منصب سفير مصر بالولايات المتحدة الأمريكية..هو.أحمد حسين..وهو القرار الذى قالت عنه “عزيزة ” ..:” أحمد كاد يرفضه, إلا أن والدي “سيد شكرى” وكذلك نجيب الهلالي “رئيس الوزراء بأخر حكومة قبل الثورة نصحوه بالقبول” ..فتسلم عمله كسفيرا لمصر بالولايات المتحدة
في واشنطن كانت عزيزة تشارك زوجها في محاولة الحصول على دعم الولايات المتحدة للحكومة المصرية..حتى إنها تلقت مباشرة من المشير عبد الحكيم عامر رسالة هامة لنقلها لزوجها . وتحكى تفاصيل الموقف بمذكراتها فتقول “قال لي أن أبلغ زوجي ليحدث لوزير الخارجية الامريكية فوستر دالاس عن التهديدات البريطانيه بالانتقام. ردا على خطف جندي بريطاني في منطقة القناة. وفي اليوم التالي نجحت جهود “حسين ” .وقام الأمريكان بالتدخل ..ووضع حدا للموقف”..
في عام 1954 عينت عزيزة مرة أخرى فى لجنة المرأة بوفد مصر فى الأمم المتحدة، مما جعلها أول امرأة عربية ومصرية تتولى المنصب رسميا فى أول تمثيل لبلدها عقب الثورة ..وهى الفترة التى شهدت طرحها لفكرتها التى أبهرت بها العالم كله .وهى “تنظيم الاسرة “. وتناولت الممارسات الضارة ضد المرأة.. وأوضحت أمام جلسة الأمم المتحدة أن الدين يرفض مثل هذه الممارسات.. وطرحت فكرة تنظيم الأسرة, وأثار ذلك دهشة المشاركين واعتبروه شجاعة لأنها فجرت قنبلة, فكثير من الدول المتقدمة خشيت عرض الموضوع, لذلك رشحوها لتكون عضوا بلجنة المرأة بمنظمة الأمم المتحدة التي ظللت بها لمدة17 سنة وبعد عامين قررت الأمم المتحدة إدراج تنظيم الأسرة علي جدول أعمالها لأنهم تأكدوا أن له علاقة بالمرأة.
الزعيم جمال عبد الناصر كان فخور بالسفيرة عزيزة ويتابع نشاطها ومجهوداتها الدولية باسم مصر وقال :" أتمنى أن تكبر بناتى ليصبحن مثل “عزيزة
في واشنطن عايشت عزيزة وزوجها أحداث سياسية وتاريخية مهمة مثل معركة السد والعدوان الثلاثى وتعقدت الأمور بين القاهرة وواشنطن ويعود أحمد حسين الى مصر ورفض عرض ناصر منصب السفير المتجول. واختار أن يبقى بعيدا عن الحياة العامة زاهدا عن المناصب حتى رحيله يوم 29نوفمبر 1984 عن عمر 82عاما.
وتعود السفيرة الى مصر عام 58 وتطبق تجربة تنظيم الاسرة في الريف عبر الحضانات واعتمدت على الشخصيات العامة في القرى مثل منادى القرية وكان دوره مهما جدا في مساعدتنا,-كما تقول- وكان ذكيا وكأنه إعلامي محترف, فكان يعلن أولا عن وجود علاج لمن تعاني مشاكل صحية ثم خدمة للراغبات في الإنجاب, أي لا يبدأ بالإعلان عن تنظيم الأسرة, لذا اعتبره أنجح اعلامي عرفته
وتحكى السفيرة عزيزة"بدأت الجمعيات الأهلية تطلب تصاريحا لافتتاح عيادات بها, فشكلنا لجنة مشتركة لتجميع الجهود وتبادل الخبرات, خاصة بعد ظهور وسائل جديدة لمنع الحمل, وكانت العادات والتقاليد والمعتقدات الخاطئة, خاصة في الريف عائقا تغلبنا عليه بالاستعانة برجال الدين المستنيرين والأطباء. ونتيجة ما حققناه من نجاح تم اختياري لرئاسة الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة وبعد ذلك أسسنا جمعية تنظيم الأسرة بالقاهرة التي أصبحت لها فروعا أو جمعيات مماثلة في كل المحافظات, وبعدها أسسنا جمعية أسرة المستقبل
عام 1977 بينما كانت “عزيزة” تحقق على أرض الواقع حلمها بإنشاء اولى عيادات تنظيم الأسرة ذات الخدمات المتكاملة.لم تترد فى رفض منصب وزير الشؤون الاجتماعية الذى عرضه عليها رئيس الوزراء محمود سالم.. حتى بعد أن سمعت أن الرئيس أنور السادات نفسه كان يقف بقوة وراء ترشيحها للمنصب.وواصلت جهودها كمتطوعة حتى عند رئاستها لوفد مصر عام1978 في المنتدي الدولي للمرأة والسكان والتنمية ..وبعدها بعام واحد كانت تشارك فى وضع اللمسات الاخيرة لصياغة اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.وهى الفترة التى شهدت كذلك رئاستها الإتحاد الدولى لتنظيم الأسرة من 1977 وحتى 1983.قبل أن تحصل عام2000 على جائزة الإتحاد لإنجازاتها الرائدة ،وتتوجها منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة بميداليتها مرموقة.لتضعها بجوار “الأم تريزا” و”أنديرا غاندى”..إعترافا بدورها فى تغيير وضع “المرأة” و”الاسرة” كلها محليا وعالمياتنظيم الأسرة."
رحم الله السفيرة عزيزة التى رحلت عن عالمنا فى 19يناير 2015 .وتركت سيرة ومسيرة..تتعلم وتستفاد منها أجيال وأجيال وتستحق في يوم المرآة العالمي تكريما جديدا .