الحاجة إلى دور أكبر للمنظمات الإقليمية، يمثل محور الرسالة التي تتبناها جامعة الدول العربية، في الآونة الأخيرة، خاصة مع المتغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم، جراء التغيير الكبير في طبيعة الأزمات الدولية، من جهة، في الوقت الذى يرى فيه البعض أن ثمة تراجعا ملحوظا في دور الأمم المتحدة، والتي تعد المنظمة الدولية الرئيسية في العالم، والتي يخرج من تحت مظلتها كافة المنظمات الأخرى، سواء تلك التي تحمل بعد إقليميا، على غرار الجامعة العربية والاتحاد الإفريقى والاتحاد الأوروبى، أو التي تحمل بعدا تخصصيا، كمنظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى كونها (الأمم المتحدة) تبقى مصدر الشرعية الدولية الرسمي لكافة القرارات التي تتخذ بحق أي من دول العالم من جانب أخر.
تراجع الدور الأممى تجلى في أبهى صوره، عدة مرات، ربما أبرزها عبر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، في مايو 2018، بل وأنه استبق هذا التاريخ قبل ما يقرب من عقدين، عندما قررت واشنطن غزو العراق في 2003، رغم رفض مجلس الأمن الدولى، في ذلك الحين، لتستبدل أمريكا الشرعية الأممية لتحركها العسكرى، بما يمكن تسميته بـ"شرعية التحالفات"، عبر تشكيل تحالف يبدو "صوريا" مع بريطانيا وفرنسا، لإضفاء قدر من القانونية على الخطوة التي لم تلقى مباركة الأمم المتحدة، على اعتبار أحقية القوى الكبرى المهيمنة على العالم في التحرك لدحض المخاطر المترتبة على امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل، حسب زعمها، بالإضافة إلى إضفاء صبغة حقوقية عبر الحديث عن الديمقراطية وانتهاكات النظام العراقى الأسبق وغير ذلك.
وهنا أصبح جدية الدور الذى تلعبه الأمم المتحدة محل شك إلى حد كبير، في ظل سيطرة أمريكا المطلقة على دائرة صناعة القرار، في الوقت الذى يمكنها فيه رفع "راية" العصيان، إذا ما فشلت في تمرير ما ترغب في تمريره، عبر استبدال شرعيتها، بشرعيات أخرى بديلة، وهو الأمر الذى لم يعد يقتصر على البعد السياسى، وإنما بات يحمل أبعادا أخرى، تتجاوز السياسة، في ظل الأزمات الراهنة التي يشهدها العالم، على غرار أزمة تفشى فيروس كورونا، والتي شهدت تشكيكا دوليا في نزاهة منظمات تابعة للأمم المتحدة، وهو ما تجسد في العلاقة المتوترة التي جمعت بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومنظمة الصحة العالمية، والتي تمثل حلقة واحدة، من حلقات عدة من التوتر الذى جمع الإدارة الأمريكية السابقة بالمنظمات الدولية بشكل عام.
الأمم المتحدة
ولعل حالة التراجع التي تشهدها الأمم المتحدة في المرحلة الراهنة، تجعل المنظمة الدولية في حاجة ملحة إلى الحصول على دعم المنظمات الإقليمية، بحيث يمكن توسيع دورهم فيما يتعلق بالقضايا الدولية التي تشهدها كافة مناطق العالم، المرتبطة بهم، سواء جغرافيا، أو مصلحيا، بالتعاون مع الأمم المتحدة، مما يساهم إلى حد كبير في تحقيق قدر من الثقة الإقليمية في القرارات الدولية، في ظل ابتعادها ولو جزئيا عن السيطرة الأمريكية المطلقة تحت مظلة الأمم المتحدة، بينما يدفع نحو ضمانات أكبر لحفظ الاستقرار الإقليمى عبر دور أكبر للمنظمة المسئولة عن منطقة بعينها.
فلو نظرنا إلى العمل داخل إطار جامعة الدول العربية، نجد أن تحركات واضحة من قبل الإدارة الحالية، لتحقيق قدر من التكامل مع المؤسسة الأممية، في المرحلة الراهنة، خاصة مع تصاعد الأزمات، والتغير الكبير في طبيعتها، حيث لم تعد قاصرة على البعد السياسى التقليدي، وإنما امتد إلى جوانب أخرى، في ظل التزامن بين الصراعات المسلحة التي تشهدها المنطقة، إلى جانب تفشى كورونا، مما يجعل الوضع خارج السيطرة في العديد من المناطق، فيصبح الحل الأمثل في التعامل مع هذه الأزمات متجسدا في التعاون والتكامل مع الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، إلى جانب التعاون مع القوى الدولية الكبرى.
من جانبه، قال الأمين العام للأمم المتحدة أحمد أبو الغيط، في كلمته أمام جلسة مجلس الأمن رفيعة المستوى حول التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية ودون الإقليمية في حفظ السلم والأمن الدوليين، إن الجائحة جاءت لتضرب المنطقة العربية المثقلة أصلاً بالحروب والنزاعات المسلحة واللاجئين والنازحين داخلياً وغيرها من التحديات الهيكلية التي تمس أمن واستقرار العديد من دولها، داعيا إلى مضاعفة الجهد والعمل التكاملى لمعالجة جذور هذه الأزمات، ووضع حد للقتال الذي يمزق النسيج المجتمعي للدول الواقعة في الصراع فضلاً عن تعظيم التضامن الدولي للتعامل مع تداعيات الجائحة وكل ما خلفته من خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية.
وأضاف أبو الغيط "ندعو مجلس الأمن، وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى المعنية، إلى إقامة شراكة عمل إستراتيجية مع الجامعة العربية ودولها الأعضاء بغية إرساء دعائم الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة في المنطقة العربية، انطلاقا من فهمنا الأصيل للمشكلات التي تعاني منها منطقتنا، وتأسيساً على المسئولية الأساسية التي تتحملها المنظومة الأممية في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين."
أبو الغيط ومسئولين أمميين
ويعد حديث أبو الغيط عن فكرة الشراكة الاستراتيجية، يمثل ترسيخا لرؤية الجامعة العربية، والتي تقوم في الأساس على ضرورة تعزيز عمل المنظمات الإقليمية، في المرحلة الراهنة، وهو ما يفسره الأمين العام نفسه، خلال كلمته، بقوله "انطلاقا من فهمنا الأصيل للمشكلات التي تعانى منها منطقتنا"، وهو ما يعكس أن ثمة ضرورة ملحة لتوسيع الدور الذى ينبغي أن تلعبه المنظمات في القضايا المرتبطة بها، حتى يمكن تمرير الشرعية للقرارات الدولية المتخذة بشأنها، وبالتالي عدم تقويضها، على غرار ما حدث إبان الاتفاق النووي الإيراني، الذى وقعته إدارة أوباما، معتمدة على "الشرعية الأممية" عبر إشراك الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، بينما كانت ألمانيا ممثلة للاتحاد الأوروبى، في إطار ما يسمى بـ"صيغة 5+1"، بينما العرب لم يكونوا ممثلون في الأساس رغم ارتباطهم الوثيق في القضية.
اهتمام الجامعة العربية بالدور الذى تلعبه المنظمات الإقليمية، لم يحمل بعدا "أنانيا" يقوم على فكرة الاستئثار بالدور في مناطقها الجغرافية، وإنما يعتمد إلى حد كبير على "الشراكة"، عبر التعاون مع المنظمة الأم، وهى الأمم المتحدة، من جانب، والمنظمات الإقليمية الأخرى، ذات العلاقة بقضايا منطقتها من جانب أخر.
رؤية الجامعة القائمة على اعتماد مبدأ "الشراكة" تجلى في دعوتها إلى اجتماع تنسيقى، يشمل الأمم المتحدة، إلى جانب الاتحاد الإفريقى والاتحاد الأوروبى، وهو الاجتماع الذى عقد أمس الأربعاء، لبحث الجهود المشتركة التي ينبغي بذلها فيما يتعلق بالأزمة الليبية في المرحلة المقبلة، للوصول إلى تسوية متكاملة ووطنية خالصة للوضع فى البلاد.
الأطراف المشاركة في الاجتماع تبدو متلامسة مع الأزمة، سواء جغرافيا، كما هو الحال في الجامعة العربية والاتحاد الإفريقى، حيث تبقى ليبيا جزء من المنطقة العربية والإفريقية من حيث النطاق الجغرافى، بينما لم يغب البعد المصلحى، متجسدا في الاتحاد الأوروبى، والذى يبقى مرتبطا بشكل رئيسى بالأزمة الليبية، نتيجة تدفق ألاف اللاجئين للأراضى في القارة العجوز، وهو ما يترتب عليه مشكلات سياسية وأمنية واقتصادية.