الانسحاب من أفغانستان.. قرار أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ليثير حالة من الجدل، في الداخل الأمريكي بين مؤيد ومعارض، في ظل تساؤلات عدة، أبرزها، عما إذا كان القرار محسوب، أم أنه مجرد خطوة للمزايدة على سلفه، والذى آثر سياسة جديدة لا تعتمد فكرة الانتشار العسكرى، في التعامل مع القضايا الدولية، والتي طالما نظرت إليها واشنطن باعتبارها أحد الوسائل الرئيسية للاحتفاظ بالنفوذ على الساحة الدولية، منذ اعتلائها عرش النظام الدولى، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدءً من الحرب الكورية في الخمسينات، ومرورا بفيتنام، وحتى العراق وأفغانستان، مع مطلع الألفية، وهى المستنقعات التي لم تنتهى بانتصارات مدوية.
إلا أن إعلان موعد الانسحاب من أفغانستان، تزامنا مع ذكرى أحداث 11 سبتمبر المقبلة، يمثل في جوهره، محاولة صريحة لتصدير صورة جديدة للولايات المتحدة، تقوم في الأساس على عدم اعتماد الأداة العسكرية، كوسيلة لفرض رؤيتها، خاصة مع النجاح الكبير الذى حققته تلك السياسة إبان حقبة ترامب، والذى تجلى في الزيادة الكبيرة في شعبيته بين المواطنين الأمريكيين، خاصة بعد قراره بالانسحاب من سوريا، الذين سئموا الحروب وتداعياتها، والتي تجسدت في فقدان ألاف الأرواح بين الجنود الأمريكيين، ناهيك عن التأثيرات الاقتصادية الكبيرة لها، على مدار عقود طويلة من الزمن.
إلا أن خطوات ترامب، خاصة تلك المرتبطة بسياسة الانسحاب العسكرى، ارتبطت بخطوات أخرى متوازية معها، منها استهداف الجماعات الإرهابية، عبر استهداف رؤوسهم في عمليات عسكرية سريعة، بالإضافة إلى العمل على تقليص الوجود الإيراني في سوريا، من خلال التضييق اقتصاديا على طهران، بالإضافة إلى استهداف قائد الحرس الثورى قاسم سليمانى في يناير 2020، وهو أحد أهم مهندسى الوجود الإيراني سواء في سوريا أو العراق، وهو الأمر الذى من شأنه تحقيق الأهداف الأمريكية، دون الالتزام بوجود عسكرى دائم في مناطق القتال، مما يقلل من نسبة المخاطر التي يواجهها الأمريكيون بصورة كبيرة.
وفى السياق نفسه، كانت السياسة الأمريكية في أفغانستان، تحمل انسحابا عسكريا متدرجا، بالإضافة إلى استهداف رؤوس التنظيمات الإرهابية، مع تقديم الدعم السياسى لمحادثات السلام في كابول بين الحكومة وحركة طالبان، وهو ما يعنى أن خطوة الانسحاب النهائي، تبقى مرتبطة بتحقيق قدر من الاستقرار، سواء السياسى أو الأمني، حتى لا يكون الخروج الأمريكي من الأراضى الأفغانية مفاجئا وغير محسوب العواقب والتداعيات، وهى الحسابات التي ربما يفتقدها الرئيس جو بايدن، عندما أعلن قراره بالانسحاب، مما أثار جدلا كبيرا، لم يقتصر في نطاقه على الجمهوريين، وإنما امتد لقطاع كبير من الديمقراطيين، والذين يمثلهم الرئيس الحالي في البيت الأبيض.
مزايدات بايدن على الأسلاف لم تقتصر على ترامب، وسياسات الانسحاب العسكرى، وإنما تمتد إلى حليفه باراك أوباما وسلفه جورج بوش، عبر سياسة تطويق روسيا عبر جيرانها، وهو ما يتجلى بوضوح في المواقف التي تبنتها عدة دول من الجوار الروسى، عقب الحرب الكلامية التي نشبت بين الرئيس بايدن، ونظيره الروسى، والتي وصلت إلى حد التلاسن والاتهام المتبادل بالقتل.
سياسة "تجييش الجوار" ضد موسكو، ليست بالجديدة تماما، فقد سبق وأن تبناها أوباما، سواء في أوكرانيا في 2014، عبر إشعال ثورة للإطاحة بالرئيس الأسبق فيكتور يانكوفيتش، المعروف بموالاته لموسكو، لتنصيب أخر موال لأمريكا وهو بيترو بورشينكو، ليكون شوكة في ظهر بوتين، مما دفع الروس إلى السيطرة على شبه جزيرة القرم، وهى السياسة نفسها التي اتبعها بوش الإبن، إثر دعمه لهجوم أطلقته جورجيا على أوسيتيا الجنوبية، فيما اعتبرته روسيا مساسا بها، لتعلن اعترافها باستقلال الإقليم ومعه إقليم أبخازيا، عن السيادة الجورجية.
وهنا يمكننا القول أن سياسات إدارة بايدن، تحمل في مجملها بصمات أسلافه، بينما مازالت لم تقدم ما يميزها، فى انعكاس صريح لحالة من الارتباك، والتي ترجع في جزء منها إلى الوضع غير المسبوق في الداخل، إثر الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، ناهيك عن الانقسام الكبير بين الحلفاء، خاصة في أوروبا حول إمكانية الوثوق بواشنطن، خاصة بعد العديد من المتغيرات التي شهدتها العلاقة بين أمريكا وحلفائها، خلال السنوات الماضية، والتي تصاعدت إلى حد التوتر في الكثير من الأحيان.