عادل السنهورى

الشيخ عبداللطيف البنا.. كروان مصر وأمير المغنين

الجمعة، 23 أبريل 2021 11:38 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ألقاب كثيرة حصل عليها الشيخ عبداللطيف البنا فى العشرينات أشهرها كروان مصر و بلبل مصر و أمير المغنين كان مطربا شهيرا جدا قبل الثلاثينات لكن فجآة  اختفى اسمه تماما من المجال الفنى فى مصر
 
ولد عبداللطيف حب الله البنا عام 1890 بقرية كفر مستناد مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، أتم حفظ القرآن الكريم وتجويده وهو لم يتجاوز الاثنى عشر عامًا، بعد عام من التحاقه بالمعهد الدينى بدسوق توفى والده، وبدأ الصبى رحلته بتلاوة آيات الذكر الحكيم فى القرى المجاورة بعد أن تعرف على مجموعة من المقرئين والمنشدين، كان من بينهم الشيخ المحلاوى والشيخ غازى والشيخ أبا النصر، وقد شجعوه جميعًا على المُضى فى طريقه لما امتلكه من صوت عذب وتلاوة سليمة، بدأ اسمه يتردد على ألسنة أهل دسوق والقرى المجاورة، وخلال ست سنوات أصبح اسمه ملء السمع والبصر.
 
فى أحد الأيام، بعد أن بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، نصحه أصدقاؤه المقربون بالذهاب إلى القاهرة حيث المجد والشهرة، فى القاهرة عام 1908، أدرك البنا أن المهمة ليست هيّنة، فالقاهرة تضمُّ العديد من الشيوخ والمقرئين أصحاب الباع والشهرة، لحسن الحظ التقطه بلدياته الشيخ أبو الفضل وعرفه على الشيخ أحمد ندا المقرئ بمسجد السيدة زينب. أعجب الأخير بصوته، وطلب منه أن يرافقه فى القراءة يوم الجمعة فى مسجد السيدة زينب. بمجرد أن انتهى البنا من القراءة تسابق المستمعون للحصول على اسمه وعنوانه. 
 
فى حى الحسين تعرف البنا على الشيخ اسماعيل سكر الذى أخذ عنه التواشيح وإحياء الموالد، وفى قهوة أحمد عبده فى حى الحسين أخذ البنا يبحث عن أربعة مشايخ يعملون معه كبطانة، ساعده أحد المطيباتية فى الوصول إليهم، وكان من بينهم الشيخ زكريا أحمد الذى ظل يعمل معه من عام 1910 إلى 1912.
عندما انتقل البنا من شارع الزير المعلق فى عابدين إلى شارع محمد على حدث تحوّل جذرى فى حياته، تحوّل الشيخ عبداللطيف البنا إلى عبداللطيف أفندى البنا بعد أن خلع الجبة والقفطان والعمامة وارتدى البدلة، كان ذلك إلى حد كبير بسبب العوّاد الشهير على الرشيدى الكبير أحد سكان ذلك الشارع، فى إحدى المرات أمام محل بيع الآلات الموسيقية الذى امتلكه تعرّف على البنا، وأقنعه بالاتجاه إلى الغناء كما فعل من قبل يوسف المنيلاوى وسلامة حجازى والسيد الصفتى وغيرهم. 
بدأ الرشيدى الكبير فى تحفيظه الأدوار والتواشيح، واتفقا أن يعملا معًا، خلال شهر رمضان استأجر الرشيدى الكبير قهوة أسماها كاستيل بار أمام مسجد الكخيا فى حى عابدين القاهري، وكانت المرة الأولى التى يغنى فيها البنا أمام جمهور السميعة. غنى دورين هما بافتكارك إيه يفيدك، وكنت فين والحب فين. 
استطاع البنا أن يحشد جمهورًا واسعًا، ويكسب المال الوفير إلى أن انتقل للعمل مع على الرشيدى الصغير، وفى أحد أيام شهر رمضان من العام 1918 أقام الموسيقى محمد عمر معرضًا للمغنين المعروفين فى الاسكندرية يغنى خلاله المطربون المشهورون ليلة أو ليلتين، كان من بينهم إبراهيم القبانى وداود حسنى وزكى مراد وسيد الصفتى ومحمد سالم الكبير وصالح عبدالحى ومحمد نديم وعبد الله الخولى وابراهيم شفيق وغيرهم، فى إحدى تلك الليالى نجح البنا بفضل عذوبه صوته، ومهارته الموسيقية أن يأخذ مكانته بين هؤلاء الفحول، أقبل أهل الإسكندرية على ليلته التى غنى فيها البحر بيضحك ليه بصالة هليوبوليس بالميناء الشرقية حتى الصباح.
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى ظهر نوع جديد من المستمعين وراجت الطقاطيق، ويُرجع الباحث التونسى لطفى المرايحى انتشار الطقاطيق إلى مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أبرزها جمهور من الطبقة المتوسطة، أصبح على قلة علمه وقصر ثقافته طرفًا مؤثرًا فى سوق الأغنية نتيجة انتشار أجهزة الحاكى التى انخفضت أسعارها، عندما أدركت شركات الإنتاج هذه الرغبة لدى الجماهير سعت إلى توفير المادة المنشودة للسيطرة على السوق الجديدة، مع طقاطيق محمد على لعبة وزكريا أحمد وصبرى لولو ومحمد أنور، شهدت الساحة الفنية المصرية خلال العشرينيات رواجًا فى عدد التسجيلات.
شكَّل كل من يونس القاضى مؤلفًا، زكريا أحمد ملحنًا، عبداللطيف البنا مؤديًا ثلاثيًّا ناجحًا فى عالم الطقاطيق، تعاقدت شركة بيضافون مع البنا لتسجيل مجموعة من الأسطوانات كان من بينها أرخى الستارة اللى فى ريحنا، التى تقول: «أرخى الستارة اللى فى ريحنا / لاحسن جيرانك تجرحنا / يا فرحانين يا مبسوطين / يا مفرفشين يا مزقططين بالقوى يا احنا»، كما غنى البنا من ألحان زكريا طقطوقة ده كان لى فين ده يا ناس مخبى التى تقول: «ده كان لى فين يا ناس مخبى / مالك بتعشق مسكين يا قلبى / قالوا: تحبك، قلت: اسألوها / قالوا: بتهجر، قلت: اعذروها / قالوا: جميلة، قلت: سيبوها»، غنى البنا كذلك من ألحان زكريا طقطقوقة ما تخافش عليّا التى تقول: «ما تخافش عليّا أنا واحدة سجوريا / فى الحب يا إنت واخدة البكالوريا / أقعد سهتانة قلبى مشغول / ولما تشعلل لهاليب نار حبك / أرخى الناموسية وأنام لى شوية»، سجَّل البنا العديد من هذه الطقاطيق المكشوفة التى انتشرت على كل لسان، كان أداؤه يميل إلى الشكل التمثيلي، حيث يستطيع المستمع أن يتخيل الصورة العامة التى يغنيها من خلال صوته الحاد الرفيع الذى يشبه الصوت الأنثوى.
من بين هذه الطقاطيق أيضًا: حزر فزر، يا حليلة يا حليلة، إيه رأيك فى خفافتى، وغيرها من الأعمال المسجلة، لكن هذه الطقاطيق المكشوفة لم تكن الوحيدة التى أداها البنا، فقد غنى الوطنية منها، طقطوقة يا سعد مين غيرك زعيم غناها لـ«سعد زغلول»: «يا سعد من غيرك زعيم لمصر / من اسمه نصيب / وجهادك أحيا مجدها»، وكذلك طقطوقة البرلمان التى غناها بمناسبة انعقاد البرلمان المصري: «البرلمان والذى منه / أهو تم يا سائل عنه / واللى فرحهم يتهنوا». 
كان البنا يدافع عن نفسه طوال الوقت، ويعلل تسجيله للطقاطيق المكشوفة برغبة شركة التسجيلات فى إرضاء المستمع والسيطرة على السوق، إلى جانب الأسباب الآنف ذكرها عن انتشار الطقاطيق، يمكن للمستمع أن يضيف عاملًا جوهريًّا فى ذيوع تسجيلات البنا ألا وهو الأداء الفردى المستقل، حيث وجد الجمهور فى الأغنية الفردية قصيرة المدة التى تسجل على أسطوانات مادة سهلة الحفظ والترديد، على عكس الأغنية المسرحية المرتبطة بأحداث النصّ المسرحى، فعلى سبيل المثال كانت جهود منيرة المهدية وصالح عبدالحى ونعيمة المصرية مشتتة بين المسرح الغنائى والصالات، لكن البنا تخصصّ منذ بدايته فى الأغنية الفردية المسجلة، كان صوته الحاد ولهجته البسيطة قريبة من الذوق العام فأقبلت الجماهير على أغانيه.
لم ينسَ البنا القصائد والمواويل وغنى العديد منها: جارت عليّ مهجتي، إلهى ليس للعشاق ذنب، مالى فتنت بلحظكِ الفتاك، يا ساقى الراح بالأقداح، يا بدر شوف مهجتي، يصح يا قلبى تعشق، وغيرها من الأعمال.
 وفى عام 1928 سافر مع فرقته الغنائية إلى فلسطين بعد تشجيع من صاحب شركة بيضافون، قضى شهرين فى يافا حيث سجل الطقطوقة الشهيرة على دول ياما ياما، لكن الرحلة لم تستمر طويلًا فعاد بعدها إلى مصر ليستأنف حفلاته وأفراحه من جديد.
كان أجر البنا قد وصل إلى 300 جنيه مصرى عن الحفلة الواحدة، وغنى فى حضرة السلطان المصرى حسين كامل نجل الخديوى اسماعيل، لكن حظه مع الإذاعة المصرية لم يكن جيدًا فلم يدعَ إلى إحياء حفلات مباشرة إلا نادرًا حتى غادرها تمامًا، كان يقول: «لو كنت منافقًا أو مرائيًّا لبقى اسمى حتى الآن على كل لسان كما كان من قبل، ولكن المشرفين على الإذاعة أيام زمان طلبوا منى طلبات عديدة ليتيحوا لى الاتصال بالجماهير عن طريق الإذاعة، فلما لم أجب أقفلوا الباب فى وجهى، وأبت على كرامتى أن أطرق الأبواب المغلقة».
مع ظهور السينما الغنائية عام 1932 بدأ الجمهور المصرى بالانسحاب تدريجيًّا من عالم الاسطوانات إلى الأفلام الغنائية ودور العرضى كما شجَّعت الإذاعة اللاسلكية المصرية بدءًا من 1934 العديد من الأصوات الجديدة كى تأخذ فرصتها أمام الميكروفون، وبمرور الوقت أصبحت الحياة الفنية المتعلقة بالتسجيلات التجارية وإحياء الحفلات الخاصة والأفراح أقل بريقًا، مما قلل من شهيَّة البنا على مواصلة الطريق.
عندما تلقى خبر وفاة شقيقه الأكبر يوسف عام 1940 قرر ترك القاهرة نهائيًّا والعودة إلى قريته لرعاية شؤون أسرة أخيه، وخصوصًا أن محمد عمر المسؤول عن إدارة أعماله فارق الحياة هو الآخر، بعد عامين من عودته إلى القرية توفيت زوجته الأولى التى تزوجها عام 1924 وأنجب منها بنتًا واحدة. 
تزوج البنا مرة ثانية عام 1942 لكنه لم ينجب، اعتاد أن يشرف بنفسه على شؤون المنزل والأراضى الزراعية وكان يقرأ الجريدة بشكل يومي، أحب حياة الريف التى كانت أقل صخبًا من زحام القاهرة، خصوصًا فى ساعات الصباح الأولى، حيث كان يذهب إلى المسجد ليؤذن الفجر، وينادى للصلاة يوم الجمعة، هكذا كانت حياته اليومية إلى جانب هوايته المفضلة، ركوب الخيل، لكن هذه الحياة الروتينية لم تمنعه من إحياء حفلات بعض الأصدقاء والأقارب الخاصة.
فى عام 1963 وصل البنا إلى القاهرة عقب دعوة من الإعلامية أمانى ناشد لاستضافته فى برنامج سهرة مع فنان فى التليفزيون المصري، كانت سهرة ناجحة لكنه اختلف معهم عندما صرفوا له أربعة جنيهات فقط نظير الاشتراك فى الحلقة، وعاملوه كمطرب ناشئ.
بعد استماع المسؤولين إلى شريط الحلقة رفعوا أجره إلى 45 جنيهًا، خصوصًا بعد غنائه مجموعة من الطقاطيق والأدوار النادرة بعذوبة ويُسر، بعد مدة قصيرة من إذاعة الحلقة، طلب منه المخرج محمد رجائى أن يدون حوالى 20 طقطوقة ليسجلِّها للتلفزيون المصرى فى وقت لاحق لكن لم يعرف إذا كان الاتفاق قد تم تنفيذه أم لا، خلال تلك الزيارة إلى القاهرة طلب البنا من أحد الصحفيين أن يرافقه فى زيارة أصدقائه القدامى، لكنه تفاجأ بأن صالح عبدالحى وزكريا أحمد قد توفيا.
 قرر التوّجه إلى منزل الموسيقار محمد عبدالوهاب الذى تعرّف إليه عام 1917 عندما كان الأخير صبيًّا صغيرًا فى منزل الموسيقار إبراهيم القباني، كان البنا بطبيعة الحال منحازًا إلى موسيقى سيد درويش ويعدّه أحد أساتذته، كان يقول إنه، صاحب الفضل الأول على الموسيقى الشرقية.
لم يتحمس البنا للموسيقى الجديدة بعد اعتزاله، حيث قال إنها: غير منسجمة مع روح الشرق والشرقيين، إنها مجرد صناعة، وهى خليط عجيب لم يدرك الشرق، ولا هو أدرك الغرب، إن الموسيقى اليونانية لها لونها الخاص، وهى لا تقتبس من الموسيقى الغربية، والموسيقى التركية كذلك، وجميع الأمم لها ألوانها الخاصة فى موسيقاها، أما نحن فقد أراد لنا موسيقيو آخر الزمان أن نكون أعجوبة الأمم فى موسيقانا.
كان يتابع حفلات أم كلثوم فى الإذاعة المصرية من خلال الراديو فى منزله وقال عنها: أم كلثوم لو كحّت لازم اللى يسمعها يقول الله، إنها هبة لنا من عند الله.
وتعود معرفة البنا بالست إلى عام 1923 فى منزل مصطفى باشا فودة، أحد أعيان مدينة السنبلاوين بعد إلحاح صادق بك الصريطى أحد المدعوين إلى الفرح على أن يُسمعهم صوت الآنسة الجديدة.
بالرغم من ذلك الحضور الفنى للبنا إلا أن هذه الهالة المرسومة حوله سرعان ما انطفأ وهجُها، فالمطرب الذى انتشرتْ أسطوانتُه فى أرجاء مصر بات من نفحات الأمس، كأن تلك الأسطوانات أصبحت مشروخة، كماضٍ بلا صوت.
تظل حالة عبد اللطيف البنا فى تاريخ الغناء العربى شديدة الخصوصية، نظرًا لطبيعة الغناء التى انتهجها، فقد كان صوته حادًا رفيعًا يشبه الأداء الأنثوي، سمح له بمنافسة مطربات هذه المرحلة فى تسجيلاته. بالرغم من الشهرة الواسعة التى حظى بها البنا إلا أن المعلومات المتعلقة بمسيرته، خصوصًا فى الصحافة الفنية، لم تظهر إلا فى أوقات لاحقة عقب اعتزاله الفن واستقراره فى قريته النائية عن العاصمة، كان من النادر أن تجد له صورة منشورة فى إحدى المطبوعات الفنية خلال العشرينيات والثلاثينيات.
وفى عام 1969 رحل الشيخ عبداللطيف البنا.. بلبل مصر وأمير المغنين فى صمت بعد أن ترك للموسيقى الشرقية تراثا بديعا من الغناء والتواشيح.  

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة