لعلها تكون المرة الأولى التي ينغمس فيها الشارع المصري من رأسه حتى قدميه في دراما رمضان، ليس من أجل المتعة والتسلية وقت الصيام وتمضية الوقت قبل السحور، ولكن لمتابعة تفاصيل تاريخية عاشوها وانكشافات أمنية عاصروها واستقطابات غير مسبوقة جربوها، ومن المؤكد أن موسم الدراما الرمضانية هذا العام مختلف، وغير مسبوق حيث تم عرض عدد من المسلسلات المصنفة تحت بند (الواقعية) و(التوثيقية) التي لم تخل من هالات سياسية واضحة ونفحات وطنية ظاهرة، وبمجرد ذكر اسم (هجمة مرتدة، الاختيار 2، القاهرة كابول) أيقن الجميع أن الجرعة السجالية في رمضان ستكون حامية في سبيل (إعادة توطين للدراما المصرية وصناعة الوعي) لدي قطاع كبير من المصرين وخاصة الشباب.
لسنوات طويلة عاش الجمهور فى حالة من التعطش لأعمال الجاسوسية، خاصة تلك الأعمال المأخوذة من ملفات المخابرات العامة، ذلك الجهاز العظيم الذى يحمى رجاله مصر والمصريين من الكثير من المؤامرات التى تحاك ضده، وربما قبل (هجمة مرتدة) لم يكن المواطن الذي يعيش فى أمان يدرك حجم الأخطار التي تتعرض لها حياة هؤلاء الرجال طوال الوقت، ليس فقط وحدهم بل ذويهم وأحبائهم وأقرب الناس إليهم، هؤلاء الرجال ممن يسطرون بطولات قد لا يعرف عنها العامة شيئا، وعلى غرار كبار الأعمال الدرامية التى سبق وقدمت للجمهور يأتى مسلسل (هجمة مرتدة) في موسم رمضان 2021، ليروى عطش الجمهور فى مشاهدة تلك الأعمال التى طال انتظارها، فى ظل التطور التكنولوجى وأجهزة الترقب بزمن السوشيال ميديا ويمثل أنشودة فى حب الوطن.
ولأن الأعمال المأخوذة من ملفات المخابرات فى الدراما التليفزيونية قليلة، لكنها صاحبة تأثير كبير فى وجداننا جميعا، وتظل راسخة فى الذاكرة، مثل (رأفت الهجان، دموع فى عيون وقحة، الحفار، العميل 1001، عابد كرمان، حرب الجواسيس، الزيبق) وغيرها، لأنها تحدث حالة من الوعى الجماهيرى، فالكل يلتف حولها، كونها تناقش قضية مرتبطة ببلدنا، خاصة حينما تكون مكتوبة بسلاسة درامية وغنية فى أحداثها، تماما كما حدث في مسلسل (هجمة مرتدة)، الذي صنع بحيث يكون عملا تاريخيا وتوثيقيا بامتياز باعتباره مأخوذا من ملفات حديثة للمخابرات العامة المصرية، ويعكس العديد من الوقائع والحقائق، فى إطار درامى يعتمد التشويق والإثارة من ناحية، ومن ناحية أخرى يكشف حجم المؤامرة الكبرى على مصر.
ويحسب لصناع المسلسل ذكاء اختيار فريق العمل، ذلك الفريق الذى يجتمع حوله الكثير من الشباب وهى الفئة المستهدفة استكمالا لمعركة الوعى، ذلك الشباب الذى يحتاج إلى معرفة حقيقته وأن يتسلح بالفكر والوعى لحماية مصر وحماية نفسه من الوقوع فريسة فى شباك أعداء الوطن، ويعتبر (هجمة مرتدة) أول مسلسل جاسوسية يناقش عملية تمت فى القرن الواحد وعشرين، كما أنه يناقش ويرصد ملفات المخابرات فى ظل اختلاف آليات التعقب والمراقبة والمراسلات والتجنيد عما شاهدنا فى أعمال سابقة لها شعبية كبيرة.
ولقد استمتعنا كمشاهدين بأداء بالغ التفوق بقدرة واحترفية جهاز المخابرات المصرية (عين الصقر الساهرة على أمن الوطن والمواطن)، من خلال أساليب التدريب والتخفي والمرواغة والتأهيل النفسي على مستوى المكان المجهز بأحداث وسائل التكنولوجيا والأدوات المستخدمة فضلاء مقومات الدهاء والذكاء كما جاء في أداء خرافي ساحر من جانب (الكومندان) السيد (فاروق السوهاجي) بتوقيع المخضرم القدير (أحمد فؤاد سليم)، وترويض العناصر مثل (سيف العربي) الذي جسد دوره النجم (أحمد عز) ببراعة تجمع بين الجدية والمسئولية بمزيج من الكوميديا الخفيفة، وأيضا كيفية التعامل من جانب قادة الجهاز مثل (السيد رفعت) الذي لعب دوره الذئب العجوز المتوقد ذكاء وحكمة (هشام سليم) مع تلك الثعابين السامة.
نعم تلك الثعابين السامة التي جندت عملاء التمويل الخارجي والمنشقين عن الجماعة الإرهابية والمتعاونين مع مكاتب التجسس في القاهرة وبقية العواصم العالمية، لكن المخابرات المصرية نجحت وسط تلك الفوضي التي صنعتها أمريكا وبعض الدول الأوروبية في تجنيد عملاء الخارج بذكاء نادر، وفي جو من الإثارة والتشويق يعيد علينا مسلسل (هجمة مرتدة) على جناح سيناريو كتبه بدقة وبراعة (باهر دويدار)، وأخرجه بحرفية (أحمد علاء الديب) أجواء بطولات المخابرات المصرية قبل 18 سنة تقريبا، عندما كانت وماتزال لها اليد الطولى في الوصول إلى معلومات ووثائق من شأنها حماية الدولة المصرية ودرء الأخطار عن بعض الدول العربية التي ترتبط بذات المصير المشترك في مكافحة الإرهاب من جانب جماعات مثل (داعش والنصرة) وغيرها من جماعات أخرى تكونت على أرض العراق في ظل الفوضي التي كانت تعيشها على أثر السقوط في براثن الأمريكان في 9 أبريل 2003.
وأوضح المسلسل أن (سقوط بغداد) هو الذي فجر ينابيع الإرهاب الذي استهدف المنطقة العربية، وقوى في الوقت ذاته شوكة المخابرات المصرية التي رصدت منذ البداية خطوات التمهيد لما يسمى بالربيع العربي الذي حمل في طيات الخيانة من جانب بعض العناصر التي دشنت ما يسمى بالتغيير السلمي الذي حول البلاد والعباد إلى حالة من الفوضى الخلاقة على طريقة كونداليزا رايس، ولذا ركزت أحداث الحلقات الست الأولي على العراق وتحديدا عام 2007 عندما تحول إلى مستنقع يضم كافة جماعات العنف المسلح، وفي ذات الوقت نشط جهاز المخابرات المصرية في بعض العواصم الأوروبية وخاصة بريطانيا في وقت كان يعتقد نصف البريطانيين أن ضلوع بلادهم في الحرب على العراق دمرت سمعة بريطانيا حول العالم.
وتكشف وقائع الأحداث في المسلسل أن تجنيد المخابرات المصرية لـ (سيف العربي) وغيره من عناصر كانت تستهدف وضع موطئ قدم على أرض صلبه في أكثر المناطق سخونة في الأحداث على مستوى العالم، في بداية تكون (داعش والنصرة) وغيرها من جماعات الإرهاب الأسود، كما اتضح لنا من خلال التفجيرات المرعبة التي وقعت في مناطق مختلفة بالعراق في سياق المسلسل، وفي الوقت ذاته نجحت المخابرات المصرية في زرع (دينا أبو زيد) التي لعبت دورها باحترافية (هند صبري) في قلب أوروبا التي وصفت الديموقراطية في ذلك الوقت بـ (السلعة الغربية الأكثر رواجا حول العالم)، ولعل أبرز ما كشفته وقائع مسلسل (هجمة مرتدة) هو نجاح عناصر المخابرات المصرية بقيادة السيد (رفعت) في كشف ألاعيب الولايات المتحدة الأمريكية التي انتهجتها أولا من خلال مايسمى بـ (سياسة تطهير المستنقع) كما تزعم في العالم الإسلامي قبل احتلال العراق عام 2003.
حينذاك رأت الولايات المتحدة في الصعود الإسلامي - ضمن ما أطلق عليه الصحوة الإسلامية بعد انحسار المد الشيوعي والقومي في الدول العربية والإسلامية - خطرا على كثير من استراتيجياتها في المنطقة، كالحفاظ على مصالحها، وتأمين موارد الطاقة، وأمن إسرائيل ، وقبل ذاك استهداف الموارد البشرية العربية والإسلامية المبدعة، وهو الأمر الذي سلط السيد (رفعت) من خلال عمله الدؤوب عليه أضواء كاشفة لبعض المنظمات العاملة في أوروبا، والتي لم يأتي ذكرها صراحة في المسلسل لضرورة درامية، لكن المخرج اختار مبنى في قلب أوروبا مشابه لمبناها، ومعروف أن تلك المنظمات كانت معنية في ذلك الوقت برسم استراتيجيات (تطهير المستنقع) للإدارة الأمريكية وسبل تحقيق ذلك ضمن تقريرها الذي أصدرته عام 2004، بعد احتلال العراق، وما أفرزه هذا الاحتلال من تأثير على سياسة القطب الواحد.
وبشكل مبطن ومن خلال المهام التي قامت بها (دينا أبو زيد - هند صبري) تمكنت المخابرات المصرية من وضع يدها على أهداف الأمريكان من وراء سياسة (تطهير المستنقع) التي تقوم على إزالة كل (مظاهر التشدد) من حركات أو قيادات أو مناهج أو برامج إغاثية، أو وسائل إعلامية وثقافية، ومحاربتها بكل ما تملك من أدوات وأسلحة، يقابله دعم لكل (مظاهر الاعتدال) في العالمين العربي والإسلامي، وهى في حقيقة الأمر كانت تربي وتدرب قيادات جماعات العنف والتطرف في السجون العراقية التي اخترقها (سيف العربي) وتوصل إلى رأس الأفعى في تلك التنظيمات وسلم تقريره الخطير للقيادة في القاهرة، التي كانت تقوم بالتحليل العميق لفهم أبعاد المخططات الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في استهداف مصر والسعودية وغيرها من دول خضعت فيما بعض لمؤامرة الربيع العربي مثل (تونس وسوريا وليبيا واليمن مؤخرا).
ولقد وعت المخابرات المصرية إلى المؤامرة الكبرى على مصر من خلال سيناريوهات الشر المبطن كما جاء في تطور الأحداث التي لفتت سريعا في الحلقة (16) إلى قضايا الأقليات من أهل البدو والنوبيين والأمازيغ، وما يثير الشكوك في نوايا أمريكا الخبيثة وقتها أن "أوباما" قام بتكريم السيدة "دورثي آت هايت" رئيس مجلس إدارة المرأة الزنجية في وقت لاحق، ولو تتبعنا خط سير هذه المنظمة سنجد أنه كان لها دور مشبوه في تقسيم السودان، وإذاعة القلاقل في شرق تونس، وبث الفتنة في غرب ليبيا باللعب على قضية الأمازيغ، وهنا سنلاحظ أن هذه الدول هى كانت مستهدفة بما يسمى الربيع العربي، ومن هنا بدأت الهواجس والأسئلة تلح على جهاز المخابرات المصرية، حيث بدا يتضح جليا أن الهدف هو تقسيم هذا الوطن، وبالبحث والتحري عثرت المخابرات على بعض التوكيلات التي تلعب بخبث شديد على العصب العاري بإثارة الفتنة في قضايا (الأمازيغ - المسيحيين - العرق - الدين – اللغة)، وهى ملفات أعدت في مطبخ وزارة الخارجية الأمريكية في إطار عمل الشركات متعددة الجنسيات العملاقة، والتي لا تلعب إلا في بيزنس السلاح وبرامج المعونة، والتي اخترقت معظم الوزارات الحكومية المصرية بحجة الدعم والتطوير.
وبعد كل تلك الأحداث المشحونة بالمعلومات والحقائق والوثائق التي حظى بها مسلسل (هجمة مرتدة)، تتضح لنا الغاية والأهداف الخفية جراء تلك المؤامرة الكبرى على مصر، فضلا عن كشف اللثام عن هذا العالم الخفي المليء بالغموض والأسرار، وربط خيوط المؤامرة في الداخل والخارج بتواز غير مخل، ويبدو لافتا أيضا تناوله للجانب الاجتماعي في حياة رجل المخابرات الذي يعيش حياة عادية مثله مثل كل مواطن يحيا على تراب هذا الوطن المقدس، حتى يمكننا القول براحة تامة أن تلك الملحمة الوطنية استطاعت أن تسطر بحروف من نور قصة أسطورة (الصقر) الذي تتخذ منه المخابرات العامة العامة المصرية شعارا لها.
بقي لي الإشادة ببراعة الأداء من جانب (أحمد عز، هند صبري، هشام سليم، أحمد فؤاد سليم، كمال أبو رية، نضال الشافعي، نور محمود، ندى موسى، محمد جمعة) على المستوى المخابراتي في التدريب وإدارة الصراع، أما على المستوى الاجتماعي فقد برز أداء كل من القدير (صلا ح عبد الله) في عذوبة من خلال لعبه دور والد سيف الذي تحمل مسئولية الدفع بابنه بشجاعة المواطن المصري الحريص على وطنه، ليقدم نموذجا مثاليا وقدوة ينبغي أن تحتذى، فضلا عن أداء بالغ الروعة من جانب الفنانة الكبيرة (ماجدة زكي) في دور أم سيف، وقد كانت لافت للانتباه طوال الوقت تلك الحبكة الدرامية التي صنعاها المؤلف (باهر دويدار)، ولا ينسى جهد المخرج (أحمد علاء الديب) في قدرته وتحكمه الدقيق في إيقاع حركة الممثلين في المسلسل، والتي نفذها بعناية ودقة فائقة تناسب الأجواء البطولية لرجال المخابرات العامة المصرية.