الفن والثقافة وجهان لعملة واحدة، هذه العملة هى الإبداع، القوى الناعمة الهائلة فى محاربة الفكر المتطرف والإرهاب، والعلاقة بين "الفن والثقافة" جدلية وترابطية أيضا منذ القدم، فهما عضوان فى بناء المجتمعات والوعى والإدراك لدى الإنسان ووسيلتان لإقناع الجمهور وتوسيع معرفته وثقافة، وخلال الموسم الرمضانى الحالى أعادت لنا دراما رمضان تلك الثنائية الإبداعية لصدارة المشهد لتؤكد بأن الاثنان لا ينفصلان ويتربطان ولا يمكن لواحدة منهما أن تنفصل عن الأخرى لتتفق مع تعريف عالم الأنثروبولوجيا البريطانى إدوارد تايلور بأن الفن والثقافة هما "ذلك الكل المركب الذى يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التى يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً فى المجتمع".
وتعاملت مسلسلات رمضان هذا العام بذكاء مع الكتب والروايات، وحاولت تسليط الضوء على عدد من قضايا المجتمع وتوضيح الرؤية الفنية للعمل من خلال الاستعانة بأحد الكتب أو الروايات، لتحقق المقولة التى تذهب إلى أن "الكتاب نصف المجتمع والمعبر الحقيقى عنه"، لتلعب الدراما مع الإبداع والكتابة دور مرآة المجتمع، وترسم لنا مشاكلنا من خلال قضايا مطعمه بمراجعها العامة لتكون وثائق وأدوات فنية محفورة فى ذاكرة الفن والإبداع المصرى.
الكتب التى ظهرت خلال الدراما الرمضانية خلفت حالة من الزخم على مواقع التواصل الاجتماعى حول دور القراءة فى حياتنا، بل أثارت اهتماما بعدد من العناوين التى ظهرت، وأثارت أحاديث عن القراءات والمناقشات وترشيحات الكتب، فضلا عن الإشادة بصناع الدراما إلى العودة للاهتمام بالأعمال الأدبية، سواء من خلال تحويل عدد من الروايات لأفلام ومسلسلات، أو بالاهتمام بظهور الكتب والمكتبات فى مشاهد الأعمال الدرامية.
والحقيقة أن الكتب التى ظهرت فى مسلسلات هذا العام كانت معبرة عن الحالة الدرامية للعمل وكانت لكل منها رسالة وهدف من الظهور، ولعل مسلسل مثل "القاهرة كابول" للمؤلف عبد الرحيم كمال، جسد تركيبة المصريين المحبين للصوفية والمرتبطين بآل البيت، وهو فكر أبعد ما يكون عنه المنتمين لحركات الإرهاب، الرافضة لزيارة أضرحة الأولياء من الأساس، معبرا عن التناقض الفكرى لدى عناصر الجماعات الإرهابية، من خلال عدد من العناوين مثل "الملل والنحل" للشهرستانى، كتاب "the politics of non violent actions" للكاتب الأمريكى جين شارب، وهو المنطلق ذاته الذى تعامل معه عدد من الأعمال الأخرى ومنها:
الاختيار 2
مسلسل "الاختيار 2" للمؤلف هانى سرحان، والمخرج بيتر ميمى، عمل درامى يوثق الحال الأمنى فى مصر منذ عام 2013 وإلى الآن، مجسدا شر الجماعات الإرهابية والوضع الذى صنعته جماعة الإخوان الإرهابية أثناء وجودها فى الحكم، ولأن العلاقة تاريخية والجذور لها خلفيات من زمن أبعد من اللحظة الراهنة، سلط المسلسل الضوء على عدد من العناوين التى توضح فكر الجماعة، وغرضها من نشر الإرهاب.
فخلال الحلقة الثالثة ظهر الفنان الراحل هادى الجيار، فى مكتبته الخاصة، وهو يقرأ كتاب "الكامل فى التاريخ" لابن الأثير، والذى يعد أشهر كتب التاريخ الإسلامى، ويقدم تاريخ جامع للملوك فى الشرق والغرب، وأهم الأحداث التاريخية منذ بداية الزمان وحتى 620 هجريا، كذلك كتاب "الكبائر" للإمام محمد بن عثمان الذهبى، والذى يرصد من خلاله المعاصى والخطايا التى يجب أن يتجنبها المسلم، ولعل المؤلف أراد أن يعبر عن ثقافة المصريين وأن الشعب المصرى واع يعرف تاريخه لذلك لم يقتنع بحكم الإخوان فلفظهم سريعا بعد شهور من وصلوهم للحكم.
كذلك كان لتوضيح فكر الجماعة الإرهابية وكيف ينتشر ويتوغل داخل المجتمع، حيث ظهر فى أحد المشاهد كتاب "الدعوة والداعية" لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية، والذى يتناول سيرة حسن البنا وأفكاره وأهدافه من تأسيس الجماعة، ويلقى الضوء على تطور أفكار وبلورة فكر الجماعة، وكيف تم تكوينها وكيف تعددت شعبها ومناطقها والأفراد والأسر والانتقال من مدن إلى أخرى والتغلغل فى المجتمع، واستعان العمل أيضا بكتاب "معالم فى الطريق" لسيد قطب والذى أطلق فيه صاحبه تجلياته الشيطانية بوصف المجتمعات العربية والإسلامية البعيدة عن تطبيق الشريعة - على حد زعمه - بأنها مجتمعات جاهلية لابد من نسفها فكريًا وعمليًا، وأن الحكام فيها والمحكومين "جاهلين"، وكشف ظهور مثل هذه العناوين عن مدى الدراسة العميقة للجهات الأمنية المصرية لفكر الجماعة وتطلعها على أفكارهم وكتبهم، ومن ثم كشف مخططاتهم الدنيئة.
هجمة مرتدة
ومن الحرب على الإرهاب داخليا والتصدى بقوة لمعركة الوعى إلى تناول ما يحاك بمصر خارجيا من مؤامرات تمتد تأثيراتها إلى داخل الوطن جاء مسلسل "هجمة مرتدة" بطولة أحمد عز وهند صبرى وهو من الأعمال الدرامية المأخوذة من الملفات الحديثة للمخابرات المصرية، ويعود إلى فترة ثورة 25 يناير، والصراع بين الأجهزة الأمنية المصرية وبعض الجهات الأجنبية التى سعت لاستغلال الأحداث للتجسس أو تخريب البلاد.
وفى الحلقات الأولى من العمل ظهر كتاب "وجع المصريين" للدكتور خليل فاضل فى مشهد بشقة دينا أبو زيد (هند صبرى)، وكان الكتاب معبرا عن حال الأسرة و"وجع المصريين" والمنظومة المصرية التى خدشت وصدمت وجرحت فى شكل غير مسبوق منذ منتصف سبعينات القرن الماضى وأدت إلى ظهور الإرهاب الذى حاول سرقة الدولة المصرية بعد سقوط النظام السابق.
وظهر فى نفس الحلقة كتاب "مصر على كف عفريت" للكاتب الصحفى الراحل جلال عامر، وذلك خلال مشهد تم تصويره أيضًا فى شقة دينا أبو زيد، وذلك قبل أن تكشف أحداث المسلسل تعاونها مع الأجهزة الأمنية المصرية، صحيح أن الجمهور تعجب من وجود تلك الكتب فى مكتبة شخصية يبدو أنها لا تهتم بالشأن المصرى الداخلى، لكن ظهورها فى هذه المشاهد كان له دلالة واضحة تمهد للمفاجأة التى كشفتها الأحداث حول حقيقة شخصية "دينا أبو زيد".
وظهر كتاب "الديانتكس.. قدرة العقل على الجسد" فى أحد مشاهد مسلسل "هجمة مرتدة" مع الفنان أحمد فؤاد سليم والذى يجسد دور قيادة مهمة فى جهاز المخابرات العامة المصرية، ويتناول الكتاب كيفية السيطرة على العقل وأسس لديانة تدعى "الساينتولوجي" وكشف عن وجود كنيسة سرية تتجسس على المؤسسات الحكومية فى أمريكا، ودلالة ظهور هذا الكتاب فى هذا المشهد تحديدًا هى الإشارة إلى اهتمام رجال الأجهزة الأمنية المصرية وتحديدا المعنية بالأمن القومى بقراءة ما يدور فى المجتمعات السرية السياسية الأمريكية، والأدوار التى تلعبها فى توجيه السياسة الأمريكية تجاه العالم ومنطقة الشرق الأوسط تحديدًا، خاصة أن الكتاب تطرق لبعض الأساليب المرتبطة بغسل الأدمغة والتأثير فى الجماهير وتحديدًا قطاعات الشباب.
بين السما والأرض
المسلسل المأخوذ عن قصة كتبها الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ، وتحولت إلى فيلم سينمائى إنتاج عام 1960، من إخراج المخرج صلاح أبو سيف، حول مجموعة من الأفراد يدخلون مصعدا فى بناية كبيرة متعددة الطوابق، وفجأة يتوقف المصعد بفعل فاعل.
خلال أحداث العمل يظهر الفنان القدير أحمد بدير حيث يقوم بدور "شاكر" صاحب مكتبة بها جميع أنواع الكتب القديمة والتراثية، وتقوده الظروف ليكون ضمن المحجوزين داخل الأسانسير، المسلسل من الوهلة الأولى حاول تسليط الضوء على المجتمع من واقع صغير هو الأسانسير، لذلك جعل صناع العمل هناك عدة فى مواقع مختلفة أكثرها الأسانسير بيئة السرد الدرامى، ومشاهد أخرى خارجية منها داخل المكتبة وبين أرفف الكتب والروايات، فى تعبير عن ذلك الصراع الإنسانى والفلسفة الإنسانية فى التعامل مع الآخر وتجسيدا لفكرة الخير والشر داخل المجتمع الواحد، وهو ما ظهر جليا فى الحلقة الثالثة والتى ظهر بها كتاب "تاريخ الفلسفة اليونانية" لـ يوسف كرم، والذى يرصد حياة اليونانى القديم، وأبرز الفلاسفة اليونانيين ونشأتهم وتأثيرهم على الحضارة الأوروبية والإسلامية فيما بعد، كذلك ظهر غلاف رواية "ورد بلا شوك وجود بلا عطاء" للكاتبة الجزائرية رميساء بلوصيف، وهو ربما كان إشارة إلى عدد من الشخصيات المجسدة داخل العمل الدرامى.
نجيب زاهى زاركش
المسلسل الذى أعاد إحياء مسرحية الكاتب الإيطالى إدوارد فيليبو، وعنوانها "زواج على الطريقة الإيطالية" قدمت فيلما من إنتاج عام 1964، كما قدمها يحيى الفخرانى في نهاية التسعينيات في عرض مسرحى بعنوان "جوازة طليانى".
وفى المعالجة الحالية حاول المؤلف عبد الرحيم كمال الحديث عن المجتمع فى إطار اجتماعى كوميدى، حيث يناقش العمل علاقة الأب بالأبناء بطريقة واقعية لنماذج فى حياتنا اليومية، ويبرز العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، من مختلف الأجيال والأعمار، والقضايا الشائكة، وكيفية إيجاد حلول لها.
والمسلسل يمنح مساحة أكبر لـ دور المثقفين ودور في عالمهم بين حقيقهم ومدعيهم وذلك لأن أحد أبطال العمل هو كاتب وشاعر يمر على مقاهى المثقفين ويحلم بنشر أعماله الأدبية.
وفى المسلسل يصطدم النجم الشاب رامز أمير، الذى يقوم بدور "مسعد" الشاب المثقف الذى لديه موهبة أدبية، بشخصية نجيب زاهى زراكش ويصفه بالمتصابى، إلا أن الأخير يساعده فيما بعد على نشر أولى روايته "كل الألعاب للتسلية"، وخلال أحداث الحلقة الثالثة ظهر الفنان رامز أمير فى أحد المشاهد وهو يقرأ رواية "كوابيس قبل النوم"، للكاتب الشاب عبد الرحمن حجاج، والتى تننتمى لأدب الرعب، والصادرة عن دار الرسم بالكلمات، ربما فى تعبيرا عن طبيعة المحبة للقراءة.
كذلك ظهرت رواية "قواعد العشق الأربعون" أهدها "مسعد" إلى "نانسى" ابنة أخت "نجيب زاهى زركش"، ربما تعبيرًا عن مشاعره ناحيته ومجسدا لأشواقه ومشاعره العاطفية وتعلقه بها الروحى مثلما الحال فى قواعد العشق الإلهى الذى وضعها شمس التبريزى وجسدته الرواية سالفة الذكر.