أثارت واقعة فيديو مواطنون يحملون كفنهم بطريقة مذلة فى منطقة عين شمس، جدلا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعى خلال الأيام الماضية، بعدما انتشر مقطع فيديو بصورة كبيرة لثلاثة مواطنين وهم يقدمون كفنهم إلى مجموعة أخرى طالبين العفو منهم، وسط حضور كبير من الأهالى داخل سرادق تم إعداده خصيصًا لذلك، فى حالة شهدت سب وشتائم كثيرة وجهها أفراد العائلة التى يقدم لها الكفن، ليتم الكشف بعد ذلك عن تفاصيل الواقعة من قبل جهات التحقيق فى الأجهزة الأمنية.
وغالبا ما تظهر عادة تقديم الكفن لوقف أى قتال من الممكن أن يحدث بسبب الثأر، والأخير عادة لها جذور عميقة خاصة فى صعيد مصر، فتصمم عائلة القتيل على الأخذ بالثأر من القاتل أو أحد أفراد عائلته، ولا يسقط الأمر بمرور الزمن، ومنذ سنوات ظهر طقس تقديم الكفن أو "القودة"، حيث يتصل شخص يعرف بـ"قاضى الدم"، بعائلتى القاتل والقتيل للصلح بينهما، وهى محاولات قد تمتد لشهور بل لسنوات، ثم تقام بعدها مراسم تقديم الكفن بهدف إنهاء حالة الثأر بطريقة سلمية.
اختلف المؤرخون حول موطن نشأة وانتشار ظاهرة الثأر التى تنتشر فى بعض البلدان العربية، مثل مصر واليمن، فمنهم من أرجعها إلى العصر الفرعوني، ومنهم من أعادها إلى موسم الهجرة العربية إلى مصر والتى جرت فى أعقاب الفتح الإسلامي، واعتمد المؤرخون الذين أرجعوا ظاهرة الثأر إلى عصور الفراعنة فى تأكيد ذلك على أسطورة إيزيس وأوزوريس، وكيف دفعت إيزيس ابنها حورس للأخذ بثأر أبيه من عمه.
ويرجح الباحث فى التراث الشعبى، محمد شحاتة العمدة، أن بداية ظهور الثأر مع دخول القبائل العربية وقت الفتح الإسلامى إلى مصر، لكن العمدة، وهو صعيدى المنشأ، أرجع العادة لمصر الفرعونية وأسطورة إيزيس وأوزوريس، والتى حدث خلالها نزاع بين أوزوريس وأخوه ست الذى قطعه إلى أجزاء، قيل إنها انتشرت فى كل أنحاء مصر، فجمعتها زوجته إيزيس، وعندما عادت له الحياة أنجبت منه حورس، وبعدها عرفته على قاتل أبيه، وبدأت رحلته لأخذ الثأر من عمه ست، وبعد نزاعات بينهما تم الصلح.
وأرجع البعض بداية الثأر فى الصعيد، حينما توافدت القبائل العربية أثناء الفتح الإسلامى لمصر من شبه الجزيرة العربية وبلاد المغرب العربي، ومنها قبائل قنا من العرب والأشراف والهوارة، ونقلت معها هذا الموروث من أيام الجاهلية بجميع معتقداته، وتدين ثقافة الثأر بالكثير لهذه الحكايات المجهولة بالمعنى الواسع لمفهوم الحكاية، إلا أن ثقافة الثأر ترتكز أيضاً على تراث عام له بعده التاريخى الممتد فى القدم، وله حياته الفعالة لا فى مجتمع الصعيد المصرى وحده، بل فى الثقافة العربية بشكل عام، فلقد لعبت الموروثات الشعبية دوراً فى ترسيخ عادة "أخذ الثأر"، خصوصًا فى المناطق التى تعج بالصراعات والعصبيات القبلية.
وفى كتاب "القربان البديل"، يشرح الكاتب والشاعر فتحى عبد السميع مراحل تقديم الكفن، كطقس يرسخ منهج اللاعنف فى التصدى لمشكلة العنف، مؤكداً أن الطقس ليس عشوائياً بل يعتمد الأسلوب العلمي، فكل حالة ثأرية تُدرس بشكل جيد، وهو يقوم بشكل أساسى على إجراءات لا يقبلها الإنسان فى الوضع الطبيعي، وتهدف لتطهير القاتل نفسه.