ربما تغيب منى زكى طويلاً عن المشهد الدرامي، وهى في هذا تبدو لي كمن يمثل على سطر ويترك سطورا، لكن مجرد ظهورها على الشاشة ولو لمشهد واحد يبدد كل الغياب الذى لا تقصده، ولا تتمناه، وها هى تعود بقوة كسيدة للأداء الصعب فى مسلسل (لعبة نيوتن) وعلى جناح تلقائيتها المعهودة يأتي أداؤها بطريقة مبهرة، فهى تركز على التفاصيل الصغيرة للشخصية، ليبدو لك فى الحقيقة أنها لا تمثل بل تتوحد مع شخصية (هنا)، وهى تتحدث الانجليزية بطريقتها المرتبكة رغم إتقانها لها.
مشاهد بعينها هى التي حركت مشاعر الجماهير نحو التعاطف معها والتأكيد على قدرتها التمثيلية فائقة الجودة ولعل مشهد الولادة الصعب المثير الذى أدته ببراعة كما لو كانت تعيش لحظة الولادة بالفعل، وأيضا مشهد المحكمة ودموعها المتحجرة وهى تخشى أن تحرم من طفلها، يؤكدان تفوقها المثير بأداء صادق معبر عن مخاوفها وصدماتها.
في (لعبة نيوتن تتحمل منى زكى العبء الأكبر من نجاح العمل، وللأمانة ليس أداء منى فقط هو المميز، بل كافة الممثلين وفى مقدمتهم محمد فراج الذى قدم شخصية متلونة استطاع أن يتعامل مع تناقضاتها، وكذلك الرائع محمد ممدوح، والساحر سيد رجب، وجدية عائشة بن أحمد، وحتى الوجوه الجديدة مثل آدم الشرقاوى (زي)، الذى أدى دوره بتلقائية وكأنه لايشعر بوجود الكاميرا، وآلاء سنان (سارة) وكذلك الممثلات الأجانب فى أدوار صغيرة كالروسية والمكسيكية والصينية، وحينما تصل البراعة بكل الممثلين الى هذا الحد فلابد أن تدرك أن وراءهم مخرج يستطيع أن يضع ممثليه فى أفضل حالاتهم، ولاشك أن تامر محسن أجاد ببراعة توجيه ممثليه، فهو مؤلف القصة والمشرف على الكتابة والإنتاج بمساعدة كتيبة جديدة من الموهوبين الحققيين في صناعة الدراما.
ورغم تحفظى الشخصي على ورش كتابة السيناريو التى سيطرت على كتاب الدراما الجدد، فـإن سيناريو (لعبة نيوتن) جاء متماسكا وكأنه كتبه شخص بمفرده، ما يؤكد نجاحهم فى الحفاظ على روح واحدة فى الكتابة، وليس التفوق فى عناصر التمثيل والتصوير والإخراج فقط، بل هنالك عناصر أخرى كانت كفيلة بأن يقدم صناع (لعبة نيوتن) الحلم الأمريكى بإطار يعتمد على التشويق والإثارة، واختار عنوانا اتسم بالغموض والذكاء معا، فمن يمكنه - من الجمهورالبسيط - أن يربط بين نظرية نيوتن (لكل فعل رد فعل مساو له) وبين أزمة المسلسل الذي تأرجح بين التراجيدي والكوميدي الخفيف، في إطار من الإثارة والتشويق.
أتي (لعبة نيوتن) كأحد المسلسلات التي توقع لها عشاق الدراما النجاح منذ البداية، كونه تأليف وإخراج تامر محسن الذي لم يخيب يوما آمال متابعيه، فأعماله - وإن كانت قليلة - تظل علامات فارقة في تاريخ الدراما المصرية الحديثة، وهى (بدون ذكر أسماء، تحت السيطرة، هذا المساء)، وتبدو لي ولغيري من مشاهدي المسلسل أن كلمة السر وراء نجاح العمل هو تامر محسن نفسه، رجل التفاصيل دائما وأبدا، بداية من العنوان الذي اختير نسبة إلى قوانين نيوتن الثلاثة للحركة، التي تفسر ما يحدث للأجسام ساكنة كانت أو متحركة حين تؤثر عليها قوى خارجية، والعلاقة العكسية بين القوة وكتلة ذلك الجسم، والأهم ردود أفعال الأجسام وما ينتج عنها من ردود أفعال مضادة لا تقل عنها في القوة.
وعلى صعوبة استيعاب قواني نيوتن فيزيائيا، فإنها دراميا بدت شديدة التبسيط، عبر حكاية قد تكون عادية من الخارج لكنها معقدة ومتشابكة من الداخل، إذ تدور الأحداث حول (هنا) الباحثة الزراعية و(حازم) المحاسب بأحد البنوك، وهما زوجان متهمان دوما من أهلهما بقصر النظر والفشل، الأمر الذي يجعل الزوج يمارس دور الكبير والعالم ببواطن الأمور مع زوجته ليشعر برجولته وأهميته، في حين تستمر هي في الانسحاق، وهى الدائرة التي تتحطم حين تسافر الزوجة لوضع طفلها في أميركا من أجل الحصول على الجنسية، وهناك تواجه الحياة الحقيقية بمفردها، وتضطر للاعتماد على نفسها، وأمام تقليل الجميع من شأنها، والاتهامات التي يلقيها زوجها على كاهلها كلما خالفته في الرأي؛ تقرر إغلاق هاتفها وإلقاء نفسها في غياهب المجهول، مما يترتب عليه انهيار جبل الثلج والدخول في معارك وتجارب يتورط فيها الجميع وتُغير حياتهم للأبد.
الاهتمام بالتفاصيل هو منهج ثابت عند (تامر محسن) في كل أعماله، لكنه هنا يستغرق أكثر فلم يتوقف عند العلاقة بين العنوان والقصة، وإنما امتد لأشياء أخرى صغيرة التقطتها عيون المتأملين بدقة، مثلما حدث خلال المواجهة بين (حازم، وهنا حين انعكس على ثيابه علامة (قابل للكسر)، كناية عن هشاشته الشديدة وتهشمه بانفصاله عن زوجته التي كان يستمد شعوره بالقوة والتحقق عبر علاقته بها، كذلك شاهدنا تفاصيل التغيرات النفسية التي مرت بها الشخصيات على مدار العمل، عبر الأداء والملابس والنظرات؛ فحازم ومؤنس مثلا صارا مع الوقت الحلقة الأضعف والأكثر تألما، في حين تعلمت (هنا) قول (لا) ورفض استغلالها أو إشعارها بالضآلة تجاه كل من حولها.
أما الأكثر متعة في (لعبة نيوتن) كونه جاء دسما باحتوائه على كم هائل من المباريات التمثيلية والمشاهد الرئيسية التي سيخلدها أرشيف الدراما، إذ جرت العادة أن يحظى المسلسل بمشهد أو اثنين مهمين، لكن هذا المسلسل كسر الأرقام القياسية بمشاهده المدهشة شبه اليومية، حيث كان المشاهد مشدودا طوال الوقت وبشغف يتابع الحلقة تلو الأخرى دون أدنى شعور بالملل حتب الحلقة (20)، وبعدها وقع المسلسل في أخطاء المط والتطويل وحشو الأحداث بمواقف لاتؤدي إلى النهاية المرجوة، لكن على أية حال تبقى مشاهد مثل مشهد ولادة منى زكي المبكرة ، أو انهيارها عند تسلمها وثيقة الطلاق، بجانب مشاهد المواجهات القوية بين فراج وممدوح، والمواجهة بين ممدوح ومنى زكي، ومشهدي كل من ممدوح وفراج مع والديهما، كلها تبقى مشاهد بكل تفاصيلها التي تجنح نحو التراجيديا الإنسانية راسخة في ذهن جمهور متعطش للفن الجيد.
وكما هو معروف عن تامر محسن أنه بارع في أن يعيد اكتشاف نجوم معروفين فيقدمهم في صورة لم نرهم عليها من قبل، إذ تتلبسهم أرواح الشخصيات التي يلعبونها فيصيروا هم وهي سواء، تماما كما كانت (منى زكي) وقد استطاع بحنكته وذكائه توجيهها نحو تقمص الشخصية على الوجه الأكمل، ومعروف عن منى زكي اجتهادها وتدريب نفسها على الوصول إلى أقصى دراجات الإجادة في الأداء، لذا كانت محط تعليقات إيجابية بعد عدة مشاهد لافتة في المسلسل بحيث تحولت النجمة الكبيرة إلى (ترند) على صفحات السوشال ميديا، بعد مشهد الولادة الذي أجمع المتابعون على أن النجمة تماهت مع المشهد فبدا حقيقياً وصادقا إلى أبعد الحدود.
ومن ثم راحت التعليقات تشيد بأداء زكي الذي نقل معاناة الأمهات حول العالم خلال وضعهن أولادهن، وكان لافتا للانتباه أيضا تفاعل الجمهور مع المشهد، ومن مكاسب تامر محسن في هذا العمل (آدم الشرقاوي)، الذي قدم شخصية (بيج زي)، وآلاء سنان في دور (سارة)، كما أعاد اكتشاف الممثلة التونسية عائشة بن أحمد، ومن هنا فالأمر لا يحتاج عمل دراسة إحصائية لمعرفة مرتبة مسلسل (لعبة نيوتن) في سباق مسلسلات رمضان لهذا العام، فالمسلسل الذي هو من بطولة كل من الفنانة منى زكي وكل من الفنان محمد فراج ومحمد ممدوح ووجوه فنية جديدة ذات خبرة تمثيلية توزاي خبرات وجوه فنية قديمة، أصبح جزء أساسي حاضر في يوميات شهر رمضان المبارك مثل (متلازمة) الفيمتو التي أصبحت سائدة في الأداء الجيد.
الحديث عن أسباب نجاح (لعبة نيوتن) يطول كثيرا، لكن لعل التركيز على دور بطلة المسلسل الفنانة منى زكي وأدائها يعكس حيزا لا بأس به من المساحة الواسعة والارتفاع العالي الذي سببته قفزات نجاحات المسلسل منذ اليوم الأول من حلقاته، ويقال أن الفضل في ذلك يرجع إلى أن فريق العمل ومنهم الفنانة منى زكي يتدربون على أدوارهم في أعمالهم الفنية بطرق احترافية كحفظ نص السيناريو أو التدريب على الأداء، ومن المعروف أيضا كما يشهد عليه نقاد عرب أن الفنانة زكي إنسانة ذكية جدا، لا تقبل بتمثيل أي دور ولا تهتم بالمظهر الخارجي بقدر قواها الحسية خلال التمثيل، كما أنها تحرص دائماً على أن تستحوذ على الكاميرا وتجبر المشاهد دون أن يدرك على أن تتوجه عيناه عليها حتى لو كان هناك عشرة أشخاص يشاركونها المشهد.
ذكاء منى زكي ظهر من جديد في أداء دور (هنا) في مسلسل (لعبة نيوتن)، ولعلها كانت تدرك وهى تؤدي الدور أمام مرآتها أن هناك بعض من مشاهدها سوف تقتحم انتباه المشاهد بها، بطريقة تلمس وجدانه ويتأثر جداً فيها، وهى هنا اتبعت منهج (ستانسلافسكي) في كيف يكون الممثل مقنعا مقبولا متلائما مع نفسه دوره بكامل شكلا ومضمونا و بمنطق لا يقبل الشك، يحتم عليه أن يعيش الواقع لا أن يمثله، هذه الحتمية تلزمه أن يكون حيا، حيويا، يتنفس الحياة بصدق ويضفي على الشخصية حضورا حيا، ذو نظام يستند إلى القوانين الطبيعية في الحياة، شرط امتلاكه التلقائية المطلوبة في الأداء كما فعلت (منى) طوال الحلقات في تفاعلها مع المراحل المختلفة في حياة (هنا)، والذهاب بها نحو آفاق أرحب.
ونظرا لأن الممثل لايصل دفعة واحدة الى مرحلة المعاناة الحقيقية للدور بل يصل اليه من خلال العمل الدؤب والمحاولة المتكررة والاحتشاد الذهنى الطويل فقد أكدت (منى زكي) على ذلك مرارا وتكرارا من مشهد لآخر ومن حلقة لأخرى، إنطلاقا من إيمان راسخ بداخلها أنه من الخطأ الاعتقاد بأن جهد الممثل مقصورا على المشاركة فى التدريبات مع الممثلين الآخرين، فهو مطالب فى الوقت ذاته بأن يواصل إعداد دوره على انفراد باحثا عن أنسب الأشكال والوسائل التعبيرية لكل جزء من أجزائه، فهومطالب بأن يحول سيرة البطل إلى سيرة ذاتية وأن يتحسس الضرورة الكامنة وراء عبارة يقولها البطل أو تصرف يأتيه، ومن الواضح أنها خلال التدريبات التى جرت مع بقية الممثلين تحت إشراف المخرج تبلور احساسها بالدور وزادت معاناتها عمقا واكتسب أداؤها الايقاع المنسجم مع ايقاع المسلسل بشكل عام، واتضح لديها بالتدريج الأشكال الفنية المناسبة للتعبير عن عالم (هنا) الداخلى، ومن هنا كان تركيز (ستانسلافسكى) على أهمية التدريبات المتواصلة للمثل للوصول إلى قمة هرم الأداء.
خلاصة القول أن تامر محسن نجح في استعادة (منى زكي) للياقتها كسيدة للأداء الصعب، وذلك بتشخيص الدور حركيا وعمليا عن طريق الحركة الطبيعية وذلك من خلال تقسيم المخرج - الذي هو بالأساس المؤلف للمسلسل - إلى أحداث وكل حدث يتكون من مجموعة من الأفعال التى تشكل التجربة الواقعية وينطلق الممثل من فهم الأحداث الصغرى حتى يصل إلى الأحداث الكبرى، وأكد (محسن) على ضرورة أن يستخدم الممثل كل أعضائه وفطرته ويركز على العمل ويعايشه فكريا وحدثيا وعاطفيا وبكل تلقائية وحركة طبيعية، أى أن يدمج روحه فى الشخصية من أجل إرساء الفن الدرامى على القانون الطبيعيى والحقائق الانسانية، ما جعله يصنع تحفة درامية بكل المقاييس في قلب دراما رمضان 2021.
يواصل إعداد دوره على انفراد باحثا عن أنسب الأشكال والوسائل التعبيرية لكل جزء من أجزائه، فهومطالب بأن يحول سيرة البطل إلى سيرة ذاتية وأن يتحسس الضرورة الكامنة وراء عبارة يقولها البطل أو تصرف يأتيه، ومن الواضح أنها خلال التدريبات التى جرت مع بقية الممثلين تحت إشراف المخرج تبلور احساسها بالدور وزادت معاناتها عمقا واكتسب أداؤها الايقاع المنسجم مع ايقاع المسلسل بشكل عام، واتضح لديها بالتدريج الأشكال الفنية المناسبة للتعبير عن عالم (هنا) الداخلى، ومن هنا كان تركيز (ستانسلافسكى) على أهمية التدريبات المتواصلة للمثل للوصول إلى قمة هرم الأداء.
خلاصة القول أن تامر محسن نجح في استعادة (منى زكي) للياقتها كسيدة للأداء الصعب، وذلك بتشخيص الدور حركيا وعمليا عن طريق الحركة الطبيعية وذلك من خلال تقسيم المخرج - الذي هو بالأساس المؤلف للمسلسل - إلى أحداث وكل حدث يتكون من مجموعة من الأفعال التى تشكل التجربة الواقعية وينطلق الممثل من فهم الأحداث الصغرى حتى يصل إلى الأحداث الكبرى، وأكد (محسن) على ضرورة أن يستخدم الممثل كل أعضائه وفطرته ويركز على العمل ويعايشه فكريا وحدثيا وعاطفيا وبكل تلقائية وحركة طبيعية، أى أن يدمج روحه فى الشخصية من أجل إرساء الفن الدرامى على القانون الطبيعيى والحقائق الانسانية، ما جعله يصنع تحفة درامية بكل المقاييس في قلب دراما رمضان 2021.