بصورة أو بآخري عبر أسامة أنور عكاشة –التي تمر ذكرى رحيله الـ 11 اليوم- في الكثير من أعماله وخاصة في ملحمة " ليالي الحلمية" الرائعة عن جزء كبير من أحلام جيلنا الذي ولد في منتصف الستينات وعاش بوعيه الصغير الذي تربى ونما على أفكار وأحلام الستينات وما تبقى منها في مناهج المرحلة الابتدائية من شعارات نرددها في طابور الصباح " قومية.. عربية" أو إنجازات ثورة يوليو وزعيمها من خلال سطور مكتوبة على الغلاف الأخير لكراسات وكشاكيل الواجب.
أسامة لم يكن مجرد كاتب مسلسلات أو مؤلف حواديت وحكايات للتسلية وانما مفكرا ومبدعا صاحب مشروع فكرى شخصي.. وقومي ظل يسكنه وبقي طوال عمره يسعى لتحقيقه وانجازه. وأظن انه حققه بدليل هذه الأعمال البديعة التى أعادت نوبة الصحيان والوعى للمجتمع ومقاومة محاولات التشويه والتغيير العشوائي وتجريف العقل المصرى منذ بداية السبعينات، فتحولت الدراما التليفزيونية بين أصابعه الى سلاح للمقاومة والوعي منذ سباعية "الإنسان والحقيقة"، ثم مسلسل "الحصار" في عام 1977، و"المشربية"، و" أبواب المدينة" و" الشهد والدموع" و "ليالي الحلمية " وارابيسك"
وبدأ اسم عكاشة يتردد على الشاشة الصغيرة، وبدأت أعماله تثير انتباه المثقفين، إلى أن ظهر مسلسل "أبواب المدينة" كأول عمل كبير في جزءين، لكن النجاح الجماهيري الكبير تحقق مع مسلسل "الشهد والدموع"، حيث تجاوز الاهتمام به وتكريمه، حدود الكتابة عنه "الى خروج كاميرات التليفزيون إلى الشارع لتستطلع رأي الناس في المسلسل.
وتأتي بيضة الديك وتاج أعمال أسامة أنور عكاشة، خماسية ليالي الحلمية، لتلقى بحجر ضخم في ركود المجتمع الفكري والسياسي والحزبي وفى بحر الحنين الجارف لمرحلة العمل والإنتاج والمشاركة.. والحب أيضا.. ولخص "على البدرى وزهرة " أحلام وانكسارات الجيل في السياسة والحب.
لن ينسى جيلنا زهرة وعلى البدرى وقصة الحب التى جمعت بينهما صعودا وهبوطا على وتر الصعود والهبوط السياسى والاجتماعى للمجتمع المصرى طوال فترة الخمسينيات والستينيات ثم السبعينيات وما بعدها، والتى رصدها بحرفية مبدع وعبقرية مثقف مثل أسامة أنور عكاشة فى ليالى الحلمية التى لم تكن مجرد مسلسل تليفزيونى، بقدر ما كانت سجلا سياسيا واجتماعيا لدفتر أحوال مصر خطه أسامه بإبداعه على مدار أكثر من نصف قرن، وأثارت معه جدلا سياسيا غضب منه بعض التيارات السياسية، وأعجب به البعض الآخر. الوفديون اعتبروه مناصرا للزعيم جمال عبدالناصر وفترة حكمه، والناصريون اختلفوا معه حول تقييمه للمرحلة الناصرية خاصة بعد هزيمة يونيو، حتى بعض أقلام الحزب الوطنى اتهموه بالانحياز السافر ضد إنجازات الرئيس السادات لحظة موت زينهم السماحى بعد سماع نبأ العبور فى حرب أكتوبر، واعتبروا أن موت زينهم «الناصرى» ضد فرحة النصر لبطل الحرب والسلام.
قال لى الأستاذ أسامة أن على البدرى كان صديقا حقيقيا فى الحياه، وكان رمزا لجيل متحمس.. حالما وبريئا، آمن بانتصارات يوليو وزعيمها، وانكسر معه، ولم يحتمل تحولات السبعينيات وتيه ما بعدها، فهاجر ومات غريبا في دولة الكويت.
ولأول مرة تتحول قاعات النقابات والأحزاب وصفحات الصحف – قبل الفضائيات- الى ندوات ساخنة حول الليالي ومشروع أسامة، فعلى الرغم من انه "ناصري، بحكم النشأة والتكوين، فلم يكن من دراويشها ، وانتقد المرحلة الناصرية في أعماله فهاجمه الناصريون كما هاجمه الوفديون والساداتيون
بسبب الحلمية ولياليها بدأت علاقتي التي اعتز بها بالأستاذ اسامة- وهو فعلا يستحق هذا اللقب بامتياز وعن جدارة- والتقيت معه مرات وزرته في بيته الجديد وقتها في حدائق الأهرام في بداية التسعينات وأجريت معه حوارا موسعا اعتبره من أجمل الحوارات الصحفية التي أجريتها طوال مشواري الصحفى منذ منتصف الثمانينات
كانت أكبر مكافأة صحفية حصلت عليها كانت من صحيفة «صوت الكويت» التى صدرت من القاهرة ولندن بعد احتلال دولة الكويت عام 90، وكانت مقابل حوار صحفى اعتبره القائمون على الصحيفة ومدير مكتبها فى القاهرة الأستاذ نبيل سويدان مشكورا- من الحوارات المميزة والجيدة. المكافأة كانت حوالى 600 جنيه، وبمقاييس عام 91 توازى الكثير جدا الآن. أما الحوار سبب المكافأة فكان مع أسامة أنورعكاشة وكان فى ظنى واحدا من أجمل الحوارات الصحفية طوال مشوارى المهنى. على مساحة صفحة كاملة فى «صوت الكويت» كان الحوار حول ملحمة «ليالى الحلمية» أيقونة إبداعاته ، إلى جانب أعماله الرائعة الأخرى، مثل وقال البحر وعلى أبواب المدينة وأرابيسك والشهد والدموع والراية البيضا وزيزينيا.
في مثل هذا اليوم عام 2010 مات أسامة مثل صديقه على البدرى لأن الزمن كان قاسيا ولم يترك جيله بريئا حالما، وأخذه فى «طريق مامنوش رجوع».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة