حرفية التمثيل فى السينما والمسرح هى مقننة وتتسم بالعفوية والتلقائية الخالية من أى مبالغة فى الأداء لأن الكاميرا ستضخم أى تعبير فى الوجه مهما بدا صغيراً مثل جفن يرمش أو فم يرتجف انفعالا أو عيون حزينة تدمع، وتبدو الكاميرا وكأنها المجهر الذى يقوم بتكبير العينات الموضوعة أمامه عشرات المرات، كذلك الكاميرا فأى تعبير مبالغ به من قبل الممثل السينمائى أو التلفزيونى يسمى عند ذاك بالمصطلح الفنى ( over )، ونفس الشيء ينطبق على آلة الميكروفون فهو جهاز حساس يتحسس أدنى الدرجات الصوتية (التونات ) ويعمل على تضخيمه، ولذا فإن أقل ارتفاع فى الصوت عن حده الطبيعى يصبح نشازا كما هو الحال مع الصورة.
وطبقا لهذا فإن الفنان طارق لطفى فى أدائه الذى يتسم بالعفوية والتلقائية طبقا لقانون حرفية التمثيل فهو يمثل حالة تمثيلية خاصة نظرا لأنه لايعرف المبالغة فى الأداء ولا يلجأ للصوت العالى ، حتى فى أقوى المشاهد التى تتسم بالعنف تجد ابتسامة تحمل قدرا من الدهاء الذى يلخص الحالة العامة للشخصية التى يجسدها، ولهذا تميز الفنان طوال فى الدراما التى انخرط فيها منذ بداياته الأولى بأدائه الرشيق، حيث يقدم فى كل عمل شخصية مختلفة عن الأخرى، لذا نال ثقة الجمهور خصوصا فى اختياراته لأعماله، ومنها شخصية درامية مختلفة ومركبة وفارقة فى الموسم الرمضانى 2021، حيث أطل لطفى على جمهوره بدور (رمزي) فى مسلسل (القاهرة كابول) الذى كتبه عبد الرحيم كمال، وأخرجه حسام على، ويشاركه البطولة فتحى عبد الوهاب وخالد الصاوى وحنان مطاوع ونبيل الحلفاوى.
صحيح أن مسلسل (القاهرة كابول) ترك انطباعات واسعة فى مصر والوطن العربي، بعدما لامس بحبكة درامية واقعاً يبدو غامضاً على غير المختصين بشؤون الجماعات الإرهابية، لكن على مايبدو لى أن هذا هو ما دفع بطل العمل النجم طارق لطفى إلى العكوف على دراسة الحالة النفسية والاجتماعية والسلوكية لعناصر وقادة هذه الجماعات قبل الوقوف أمام الكاميرا، و فى هذا لجأ إلى الإنترنت للبحث عن فيديوهات توضح طريقة تعامل الجماعات الإرهابية، ولهذا نجح فى تجسيد شخصية مركبة شديدة التعقيد تتمتع بنوع من (ثبات انفعالي، هدوء شديد، وعنف غير طبيعي)، وهو ما ظهر فى حركة يديه وجسده والحسم فى القرار والقوة فى ملامح عينيه.
أكثر ما لفت نظرى فى أداء طارق لطفى لشخصية (رمزي) هو إحالته التلقائية على الظاهرة الجهادية، بما تثيره فى النفس من ألم وحسرة على عمر ضائع لآلاف الشباب ومعاناة أسر ومجتمعات وصراعات أهلية وطاقات أهدرت، لحقت على أجزاء كبيرة من الحلقة الثانية من المسلسل، أربع رجال (إرهابي، وإعلامي، وفنان، وضابط) مجتمعون فى صالون أنيق ويدور بينهم حوار صعب وشرس وعميق (خاصة بين الفنان والضابط)، حوار من طينة تلك الحوارات بين إسلامى ومناوئيه، وربما ساهمت الحبكة الدرامية بكتابة متقنة من جانب (عبد الرحيم كمال) فى جودة أداء (طارق لطفي/ الإرهابي) بهذا التفوق، فالحوار مضافاً له المعالجة الفنية بالغة الإبداع بالرجوع للوراء لكل شخصية، (فلاش باك) أحدث فى روحه هزة قوية من الانفعال، إنها تلك الهزة التى لطالما خبرها (لطفي) حين يكون بإزاء عمل إبداعى عظيم، رعشة تذكر بقول بدر شاكر السياب:
فتستفيقُ مِلءَ روحى نشوةُ البُكاء
ورعشةٌ وحشيةٌ تُعانِقُ السَّماء.
طارق لطفي، فنان من طراز خاص، امتاز بأعماله الفنية التى تحمل طابعا خاصا تأخذه بعيدًا عن الأدوار التقليدية، ومن جانبه يحرص فى كل مرة قبل أن يدخل (البلاتوه) أن يختار أعماله بعناية، فهو يحرص دائماً على أن يقدم فنا يليق ويحترم عقلية الجمهور، وعلى الرغم من أنه طوال مشواره الدرامى لم يسع للبطولة المطلقة، فهو على قناعة تامة بأن العمل الفنى عمل جماعى ينجح بتكاتف الجميع، لذلك حرص على انتقاء أدواره بدقة واختيار الأدوار التى تترك بصمة لدى الجمهور، ومن ثم فقد سعت البطولة بنفسها إليه، رغم أنه لم يحالفه الحظ فى بدايته الفنية فى تحقيق نجاح كبير من خلال الأعمال التى شارك بها، ولكن كان دائما فنانا متميزا وسط أى فريق عمل فنى يشارك فيه، إن كان سينما أو دراما، بحيث يجعلك كمشاهد للعمل تقول إنه هو الشخصية بالفعل، وليس ممثلا يقدم الشخصية، من كثرة تقمصه وتوحده مع الدور الذى يقدمه.
كان من الممكن أن يستكين طارق لطفى للأدوار الثانية، والمساعدة، ولكن إخلاصه وقدرته المتواصلة على الحلم والعمل على نفسه والثقة فى موهبته كل ذلك جعله يركز إلى حد الغرق التام فى الدراما التليفزيونية وقدم بطولات مشهودة له فى سباق الدراما الذى لا يرحم (السباق الرمضاني)، تماما كما قدم دورا فارقا فى حياته الفنية فى مسلسل (القاهرة - كابول)، فستجد مخارج الألفاظ عنده منضبطة، ولغة الجسد عنده مبهرة، وملامح وجهه تُعبر عن الجدية والشر المبطن خلف قسمات الوجه، وهذه قدرة لا يستطيعها أى ممثل، ولأن الله وهبه صوتا مميزا لذلك فإنه لم يهدر تلك القدرة واستخدمها كما ينبغى الاستخدام، فالهدوء فى موضع الهدوء والانفعال المدروس فى موضع الانفعال، ليس برفع الصوت أو الصريخ والزعيق، ولكن مستوى الصوت أعاد لى طريقة أداء الفنان العالمى (مارلون براندو) فى الفيلم الشهير (الأب الروحي).
ومن هذه المقاربة ستعرف كيف أجاد طارق لطفى استخدام صوته، بحيث أنك لن تشعر أبدا أنه يمثل، ولكنك ستندمج معه وتعيش مع الشخصية التى يؤديها وتنسى تماما طارق لطفي، حتى أننى بالفعل نسيت وأنا أراه فى المسلسل أننى أعرفه، ونسيت شخصيته التى أعرفها، وعشت مع الشخصية التى يؤديها بكل تفاصيلها حتى النهاية.
استطاع طارق لطفى، خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بداية من عام 2012 ومشاركته فى مسلسل (مع سبق الإصرار) - مع النجمة المحترفة غادة عبد الرازق التى يحب أن يقف أمامها دائما - أن يكشر عن أنيابه الفنية ويظهر جليا قدراته فى التقمص والتوحد مع كل شخصية يقدمها فى أى عمل فنى يشارك به، ويبدأ (لطفي) من بعد ذلك فى التألق على مستوى الأداء الجاد، من خلال مشاركته فى عدة أعمال درامية متتالية، مثل مسلسل (حكاية حياة) عام 2013، ولكن عام 2014 يعتبر هو البداية الحقيقية، حيث نال طارق لطفى النجومية التى يستحقها منذ زمن، ولكن الفنان لا تأتى نجوميته فى لحظة، وهذا لا يمنع أنه يعد من الفنانين المبدعين الذين لهم ثقل فنى وسط زملائه من الفنانين، ويعترف بها الكثير ليس من سنوات قليلة، ولكن منذ بدايته فى فيلم (صعيدى فى الجامعة الأمريكية).
ولكن حينما جاءت الفرصة عام 2014 ليشارك طارق لطفى فى عملين هما مسلسل (جبل الحلال، وعد تنازلى)، كشف بجدارة عن نجومية وموهبة جديرة بالاحترام فهى غير معتادة لنجم وفنان من طراز رفيع المستوى لا يشبه أحدا أو يستطيع أحد أن يتشابه معه، ويطل علينا طارق فى عام 2015 بمسلسل (بعد البداية)، الذى حقق نجاحا كبيرا فى أول بطولة مطلقة له بمسلسل تليفزيوني، وإن كان يبدو لنا دائما بطل الدور الذى يقدمه فى أى عمل فنى طوال حياته الفنية، ليكون هذا العمل (بعد البداية) ولادة لنجم وموهبة منفردة يعمل الجميع حسابا لها فى السباق الدرامى والمنافسة على لقب الأفضل
كتب طارق لطفى شهادة نجوميته ببنط كبير فى مسلسل (شهادة ميلاد) عام 2016 ولكنها لم تكن شهادة ميلاده الفنية لأنه كانت قد كتبت بالفعل منذ بدايته فى الفن، لكنه بهذا العمل الدرامى حقق نجاحا لا يسبقه نجاح من قبل، بداية من إشادة الجمهور والمشاهدين وزملائه فى الوسط الفنى من كبار النجوم حتى أصغرهم، وبخلاف النقاد الذين أشادوا به فنيا، وأتبعه بمسلسل أكثر إثارة هو (بين عالمين) ليجعل المشاهد أيضا بين عالمين فى توحده مع (مروان) وهو الشخصية التى يقدمها بالمسلسل، ويفكر معه فما يفعله، ليخرج من مأزق الاختيار بين الحياة والتضحية بأشياء على حساب الأخرى.
معروف أن المبدع طارق لطفى لا يحب الألقاب؛ لأنه يحب الفن للفن، وليس لأى شىء آخر، لذا فهو يجتهد فى أى شخصية يقدمها كفنان هاوٍ وليس محترفا، ويستحق أن يقال له: (أبدعت وتألقت وجعلت المشاهد يفكر معك فى كل مشهد تقدمه وينسى أنك ممثل أو فنان يقدم شخصية من عمقك فى التوحد، فحين أن تبدع وتقول إن الفن ليس له آخر ولا سقف فى الأداء كل عام عن الآخر تثبت هذه الجملة بأعمالك التى تقدمها)، وأقول لك: لقد أبدعت وتوحدت وتعمقت داخل كل شخصية تقدمها إلى حد الجنون الفنى لتصل للتميز بمصداقيتك مع الشخصية وتفاصيلها، وإن كانت هذه التفاصيل على حساب نفسك وصحتك من نزول فى الوزن أو زيادة الوزن وغيره، وشيئا من هذا القبيل ظهر بشكل واضح فى تجسيد شخصية (رمزي).
وربما يرجع هذا كله لأن هذا فنان يطلق العنان لعبقرية الأداء ويحدث دائما نقلة نوعية فى أدائه واختياراته ويحرص دائما على أن يقدم شخصيته الحقيقية كإنسان خلوق، هادئ، موهوب حتى أصبح الحصان الرابح فى سباق الدراما هذا العام من خلال مسلسل (القاهرة كابول) الذى قدمه كواحد يعرف كيف يكون مخلصا لفنه ولخطواته التى يخطوها، ويدرك أن الفن هو مصدر رزقه، ولكنه لا يجازف بحبه للفن، وعلى مايبدو لى من خلال براعة أدائه لشخصية (رمزي) أن همه الأساسى هو تقديم أعمال تحسب له، ومن هنا فهو يعرف جيدا أهمية التواجد فى المكان الصحيح وفى التوقيت المناسب، ولكن فى اعتقادى الأكثر أهمية عنده هو كيفية ونوعية التواجد.
تعكس شخصية طارق لطفى الكثير من الصفاته الإنسانية التى استمدها حتما من جينات دقهلاوية، حيث ولد مدينة المنصورة، التى عرفت بالفن والأدب والثقافة على مر العصور، كما أن ملامحه تحمل من الطيبة الكثير، وتعكس حالة من الرضا النفسى اكتسبها بفعل الظروف الصعبة التى مر بها طوال مشواره، فها هو الشاب الموهوب الذى دخل من بوابة الكبار وصار يحلم بالسماء العالية، لكنه سرعان ما اكتشف واقعا مغايرا وظرفا سينمائيا وفنيا وحياتيا شديد الصعوبة، كانت هناك مرحلة من التحولات المجتمعية والتى انعكست على حال الفن بالطبع.
طارق الذى شاهد الكبار وتعلم الإخلاص والاحترام والعمل الجاد لتطوير نفسه، لم يجد شيئا من تلك المعانى فى الواقع، ولم يكن أمامه سوى أن يرفض ذلك الوضع البائس ويتعالى عليه، أو أن ينخرط فيه، أو يصنع لنفسه خريطة طريق بديلة وقد كان، حيث أصر فى كل تجربة مهما كانت طبيعتها أن يترك بصمته، من خلال اجتهاده فى رسم تفاصيل الشخصية التى يقدمها، مهما كان مستوى العمل، فلم يترك نفسه للموجة، ولم يتوقف يوما عن المحاولة فى الكثير من الأعمال التى شارك فيها ومنها مسلسلات (شارع المواردي، ليالى الحلمية، العائلة، السقوط فى بئر السبع،أهالينا)، وأفلام (صعيدى فى الجامعة الأمريكية، أرض أرض، الناجون من النار، قشر البندق، جبر الخواطر)، وغيرها من أعمال درامية تليفزيونية وسينمائى عكست ملامح موهبته المتميزة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة