ليس هناك وصف فنى محدد قادر على منح الراحل المبدع نجيب الريحاني حقه في العبقرية الفنية التي تميز بها وتمتعنا بها في المسرح والسينما بأداء بسيط مدهش ومذهل جعل كبار الفنانين أمثال فؤاد المهندس وفريد شوقي وسمير غانم يعتبرونه المدرسة الكبرى التي تخرجوا منها مع آخرين سواء في الكوميديا بأنواعها مثله مثل فؤاد حداد أبو الشعراء. فنجيب الريحاني أبو الكوميديانات في مصر والعالم العربي.
في مثل هذا اليوم من عام 1949 يرحل نجيب الريحاني عن عمر ناهز 60 عاما فقط في جنازة اعتبرها المؤرخون وقتها ثاني أعظم وأكبر جنازة في تاريخ مصر بعد جنازة الزعيم سعد زغلول في هذا الوقت، وأمام كنيسة السريان الكاثوليك بشارع الظاهر بالعباسية وقفت العربة الملكية المذهبة لتحمل جثمان "الريحاني" إلى مثواه الأخير، وذلك بأمر من الملك فاروق تكريماً له، و انتقل الجثمان إلى محطة كوبرى الليمون «ميدان رمسيس حالياً»، وسارت الجنازة حتى ميدان الأوبرا، ثم انتقل بالسيارات إلى مقابر السريان الكاثوليك.
ولد نجيب الريحاني في حي باب الشعرية عام 1889، لأب من أصل عراقي اسمه "إلياس ريحانة" يعمل بتجارة الخيل، فاستقرت به الحال في القاهرة ليتزوج سيدة مصرية أنجب منها ولده نجيب.
قدم خلال مشواره في المسرح من ثلاث وثلاثين مسرحية لم نشاهد منها- لسوء حظنا- ولا مسرحية واحدة من تمثيله هو شخصيًا، فقد مات الرجل قبل أن تعرف مصر الطريق إلى التليفزيون لتصوير العروض. و7 أفلام مازلنا نشاهدها رغم مرور أكثر من 80 عاما على عرضها الأول ومنها سلامة في خير وسي عمر 1941لعبة الست، أحمر شفايف 1946 أبو حلموس و (غزل البنات). والأخير بعد وفاة نجيب الريحاني بحوالي 3 شهور حيث عرض في 22 سبتمبر 1949.
وكل ما في حياة نجيب الريحاني مثير ومدهش واستثنائي سواء في حياته الشخصية أو في فنه وأداءه السلس الطبيعي وبكاءه الذى أضحك الملايين ومازال ولذلك أطلق عليه الضاحك الباكي . وهل يمكن أن يتصور أحد أن فيلم مثل سلامة في خير الذى انتج عام 37 مازال يضحكنا حتى الان رغم مرور 84 عاما على عرضه. أو فيلم لبعة الست عام 46 أو حتى غزل البنات عام 49 كان استثنائي أيضا في علاقاته وصداقاته . فنجيب الريحاني المسيحي الديانة لك ان تتصور ان يكون صديقه الحميم وشقيق روحه في الحياة هو الشيخ محمد رفعت الذى كان يكبره بحوالي 7 سنوات . فالشيخ رفعت مولود في 9 مايو 1882 وتوفى بعد نجيب الريحاني بعام واحد فقط في 9 مايو 1950..!
التقى الفنان والشيخ على مائدة الفن..فالشيخ رفعت كان دارسًا للموسيقى وعازفًا للعود فى هذا الزمان، لم يكن التدين يرتبط فى أذهان المصريين بالتشدد أو باعتزال المجتمع أو بـ«بمشايخ الغبرة والنكد»، وفتاوى الإرهاب والتكفير وكراهية كل شىء وتحريمه، فقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل فى هذا، فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم قرر أن يتعلم الموسيقى وأن يتدرب على عزف العود حتى أتقنه ثم حفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد، كما استمع إلى موسيقى «بيتهوفين» و«شوبان» و«موزارت»، و«فاجنر» وغيرهم وقد أثر ذلك كثيرا فى طريقته فى التلاوة فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقى المناسب لكل سورة، ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورة لم يستطعها موسيقيون كبار فى ذلك الوقت. وكان ينشد تواشيح ومدائح نبوية وقصائد، إضافة إلى تلاوته للقرآن فقد تعلمت منه أم كلثوم وليلى مراد المقامات، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، وحفظ العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته.
وكما يذكر الدكتور خيرى عامر، فى كتاب «مشايخ فى محراب الفن»: «لم تكن لتكتمل للقارئ الجديد أدواته بدون دراسة الموسيقى والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها، فتعلم قواعد الموسيقى من خلال العزف على العود وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب وعبده الحامولى ومحمد عثمان، حتى أن هناك من الباحثين من يذكر أنهم استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل «أراك عصى الدمع» و«وحقك أنت المنى والطلب» و«سلوا قلبى».
والريحاني عاش هذا الزمن الذي لم يفرق بين الأديان وأفشل محاولات الانجليز الوقيعة بين المصريين. فالتقى نجيب ورفعت الذى لم يكن قارئا أو مؤذنا فقط بل كان معبرا عن ضمير أمة وجموع الشعب. يقول الكاتب الصحفى المصرى الراحل لويس جريس، إن الشيخ عايش أحداثا وطنية مهمة، منها فترة الزعيم مصطفى كامل وواقعة دنشواى وثورة 1919. وبعيدًا عن الحساسيات الدينية لا يتردد لويس جريس فى القول «عندما جئت إلى القاهرة وجدت عددا كبيرا من الأقباط يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت فى كل سرادق يرتل فيه.
ويقول جريس، إن الشيخ محمد رفعت بتلاوته «أدى دورا وطنيا مهما جدا أكثر مما فعلته خطب الساسة أو أغانى المطربين، وقرّب القبطى من المسلم أكثر مما فعلته خطب الساسة، فصوته حنون جدا يجعلك إنسانا رقيقا تحب من أمامك».
وتحول منزل الشيخ محمد رفعت في المغربلين إلى ملتقى وصالون ثقافى اجتمعت فيه كل الأطياف والأديان بعدما ذاعت شهرته، فالتف حوله الفنانون والأدباء والمفكرون وعلماء الأزهر والقساوسة والرهبان وحتى المواطنين اليهود، فالمنزل كان مكونا من 3 طوابق، الطابق الأول منه عبارة عن 3 منادر، يعقد بها صالون ثقافى يحضره فكرى أباظة الشاعر أحمد رامى، ومحمد التابعى، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ووالدها الشيخ إبراهيم، وليلى مراد ووالدها اليهودى ..ونجيب الريحانى وبديع خيرى.
ومن بين الحكايات عن مدى حب وتأثر الريحاني بالشيخ رفعت انه ا كان يبكى عندما يستمع إلى القرآن منه، وقال إنه عندما يكون عنده مسرح، والشيخ رفعت يقرأ فى الإذاعة لا يفتح الستارة حتى ينتهى الشيخ من القراءة.
وذات مرة كتب الريحانى مقالا بعنوان: «نزهة الحنطور مع الشيخ رفعت» يشير فيه الريحانى إلى فضل القرآن عليه وما تعلمه منه، بعد قراءته مترجما بالفرنسية وسماعه بصوت الشيخ رفعت قائلا: ما كاد هذا الصوت ينساب إلى صدرى حتى هز كيانى وجعلنى أقدس هذه الحنجرة الغالية الخالدة، وهى ترتل أجمل المعانى وأرقها وأحلاها، صممت على لقاء الشيخ رفعت، فالتقيته أكثر من مرة وتصادقنا»، ووصف الريحانى الشيخ رفعت بالعالم الكبير، وأن صوته هو الخلود بعينه، مؤكدا أن نبراته احتار فى فهمها العلماء، وأنه عندما سأل عبدالوهاب عن سر حلاوة هذا الصوت، قال «إنها منحة إلهية وعبقرية لن تتكرر». وظل الريحانى مرافقا للشيخ رفعت فى أيام مرضه الأخيرة، وتشاء الأقدار أن يرحل نجيب الريحاني قبل الشيخ محمد رفعت بعام واحد تقريبا...انها علاقة الكبار والعمالقة في الفن والدين..هكذا كانت مصر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة