"الهوية العربية".. كانت أبرز الأبعاد المستهدفة من قبل العديد من القوى الدولية والإقليمية، في مرحلة ما يسمى بـ"الربيع العربى"، حيث كان مصطلح "العروبة" مؤرقا إلى حد كبير للعديد من الدول الطامحة للهيمنة والسيطرة على مقدرات دول منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فكان التحرك على مسارين، أولهما نشر الفوضى في الدول العربية، حتى تتمكن من تكسيرها داخليا، وبالتالي لا تصبح مؤهلة للقيام بدور إقليمى، بينما كان الثانى يستهدف "الهوية" في صورتها الجمعية، عبر الحديث عن استبدال المصطلح بمصطلحات أخرى، ارتبط أبرزها مصطلح "الإسلامية"، وهو ما من شأنه استقطاب تعاطف الشعوب ومباركتها، من خلال استغلال حالة الارتباط الوثيق بين الدين، والمواطن العربى بصفة عامة، من جانب، بالإضافة إلى تمكنها من إيجاد دور قيادى لها يمكنها من خلاله السيطرة على المنطقة بأسرها، من خارج المنظومة العربية التقليدية، متجاوزين أبعاد لا يمكن تغافلها، وعلى رأسها التاريخ والجغرافيا.
إلا أن محاولات استبدال الهوية العربية بـ"الإسلامية"، تجاهل، عن عمد، حقيقة مفادها أن غطاء العروبة يشمل العديد من الروابط، أهمها اللغة والثقافة، إلى جانب الدين، فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للعديد من الحقائق، أبرزها أن العرب هو القوى الدافعة للعالم الإسلامي، باعتبارهم يمثلون الأغلبية داخله، ناهيك عن امتلاكهم، وفى القلب منهم مصر، لأبعاد أخرى تضعهم على طريق القيادة للمنطقة بأسرها، أهمها الموقع الجغراقى، والدور التاريخى، وحتى المقدسات الإسلامية تتواجد على الأراضى العربية، مما يؤهلهم للقيام بهذا الدور باقتدار.
ولعل التحركات المصرية، منذ ثورة 30 يونيو، اعتمدت في دائرتها العربية، على العمل جديا من أجل إنهاء الفوضى في دول المنطقة التي عانت الأمرين، في العقد الماضى، واستعادة الأمن والاستقرار، عبر الحرب على الإرهاب، والتي تعد بمثابة استراتيجية متكاملة الأركان، تقوم على ثلاثة أجنحة، أولهم عسكرى عبر ملاحقة بؤر الميليشيات المتطرفة، بينما يقوم ثانيها على دحض الخطاب المتطرف، من خلال "معركة الفكر"، والتى استهدفت في الأساس إصلاح المفاهيم المغلوطة التي سعت إلى ترويجها جماعات الدم، في حين كانت التنمية بمثابة الجناح الثالث، على اعتبار أن التنمية هي بمثابة المدخل الحقيقى للاستقرار، والذى من شأنه سد الثغرات التي يسعى المتطرفون اختراقها.
ويعد النجاح المنقطع النظير في استعادة الزخم للقضية الفلسطينية، باعتبارها أولوية "عربية" لا يمكن مضاهاتها بأولوية أخرى، بمثابة رهانا فائزا للدبلوماسية المصرية، خاصة وأن تقويض حقوق الفلسطينيين، كان أحد أهم أهداف تلك المؤامرة، التى حاكتها قوى دولية وإقليمية، لخدمة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما بدا بوضوح في الدور الكبير الذى لعبته مصر خلال التصعيد الأخير، والذى لا يتوقف على مجرد الوصول إلى وقف إطلاق النار وحقن دماء الفلسطينيين، وإنما أيضا في مبادرة إعادة الإعمار، والتي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسى، لصالح قطاع غزة، في امتداد صريح للاستراتيجية المصرية سالفة الذكر.
بينما امتدت التحركات المصرية إلى دعم العمل العربى الجماعى، متجسدا في جامعة الدول العربية، والتي شهدت محاولات صريحة لتقويضها، في مرحلة "ما قبل 30 يونيو" في إطار المساعى لتقويض "الهوية" العربية"، حيث بات الكيان المشترك يتحرك نحو تعزيز الهوية العربية، بصورة كبيرة، في العديد من دول الصراع، والتي تعانى من حالة من الاستقطاب بين العديد القوى الإقليمية غير العربية، والتي تسعى للسيطرة على مقدراتها، عبر أذرعها المسلحة، على غرار العراق ولبنان، حيث كانت تلك الدول أحد محاور عمل الإدارة الحالية للجامعة، من أجل تحقيق التوافق بين الأطراف المتصارعة في الداخل، والتي يحمل كل منها أجندته الخاصة، من أجل إنهاء الانقسام، تمهيدا للعمل على توحيد الصف العربى في صورته الجمعية.
فلو نظرنا إلى النموذج العراقى، باعتباره أحدث الدول التي زارها الرئيس عبد الفتاح السيسى لعقد قمة ثلاثية بمشاركة الأردن، في إطار تغليب الهوية العربية، في الدولة التي تعانى من الاستقطاب الدولى، منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، نجد أن الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، قد حرص على زيارتها، في مارس الماضى، والتقى بمختلف قيادتها، ومن بينهم الأكراد، ليقدم رسالة مفادها أن "بيت العرب" منفتح على جميع المكونات العراقية، باختلاف توجهاتهم، مؤكدا أن الجامعة "تحت إمرة" الدولة العربية ومصالحها، في انعكاس صريح للتكامل والانسجام بين الدبلوماسية المصرية ونظيرتها العربية.
وهنا يمكننا القول بأن "رهان" العروبة، كان أحد أهم التحديات التي واجهت دولة 30 يونيو، حيث نجحت باقتدار، في تقويض محاولات استبدالها، وهو ما باتت مصر تجنى ثماره إلى حد كبير، سواء فيما يتعلق بالتقارب الكبير مع العراق أو الاستقرار النسبى الذى باتت تشهده ليبيا، بينما تجلى في أبهى صوره، في حالة التوحد وراء فلسطين إبان التصعيد الأخير، ناهيك عن الاحتشاد العربى وراء حقوق مصر والسودان المائية، والمرتبطة بقضية سد النهضة، خلال الاجتماع الوزاري الأخير، والذى عقد مؤخرا، بناء على طلب دولتى المصب.