الزمان: مصر الملكية تحت حكم الملك فؤاد، المكان: قلب القاهرة الخديوية، مركز الضوء وبؤرة مجتمع المال والسلطة والمؤامرات والجريمة، من هنا ينطلق الروائى أشرف العشماوى فى أحدث روايته "صالة أورفانيللى" الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، حيث تحكى عن تاريخ مصر فى أيام الحقبة الملكية، والتى فازت بجائزة بجائزة أفضل رواية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب بدورته الـ 52، والتى انطلقت يوم 30 يونيو الماضى ويستمر حتى 15 يوليو الحالى، بمركز مصر للمعارض الدولية، بالتجمع الخامس.
مصادفة غريبة، ستقود "أورفانيللي" الشاب اليهودى المصري المنحدر من أصول إيطالية، ليشارك صديقه "منصور التركى" في صالة مزاد، لن تلبث أن تقلب حياتيهما رأسا على عقب بفعل لعنة ما، لتتبدل مصائرهما بعدها للأبد وبوتيرة لاهثة من الأحداث والتحوُّلات، قبل أن تظهر شخصية ثالثة تربط بين الاسمين، لنصبح أمام ثلاث شخصيات رئيسية هي أضلاع مثلث رواية أشرف العشماوي المنتظرة "صالة أورفانيللى".
سلسلة من الجرائم الغامضة المتلاحقة، رسائل غريبة، فاعل مجهول، تشابك معقد بين كواليس صالة المزاد وكواليس المشهد المصرى اجتماعياً وسياسياً، وصولاً لخبايا كواليس الحكم نفسها فى خمس حقب من السلطة، يشملها زمن روائى شاسع وممتد من أوائل القرن العشرين وحتى سبعينياته فترة حكم السادات.
في روايته الجديدة يخوض أشرف العشماوي مغامرة روائية فريدة، ربما تكون الأكثر طموحاً في مسيرته، ليعيد التنقيب في صفحة مطوية من تاريخ مصر، كاشفاً المسكوت عنه، عبر حكاية شائكة غير متوقعة تضمها بنية سردية غير تقليدية.
هذه المرة، يعود العشماوى مجدداً للرواية التاريخية، شغفه الأثير والذي ترجمه إلى عدد من رواياته مثل "تذكرة وحيدة للقاهرة" و"سيدة الزمالك"، لكن في سياق جديد وبأسئلة غير مسبوقة والأهم، بطرح فنى مبتكر.
يقدم العشماوى رواية تاريخية عميقة في قالب بوليسي مثير، تجمع ببراعة بين الاستقصاء التاريخي والتوظيف المبهر لأدب الجريمة في بنية سردية غير تقليدية تجعل من "صالة أورفانيللى" رواية مختلفة على مستوى بنائها والطريقة التى تتشكل بها الحكاية.
ثلاث شخصيات رئيسية تروي حكاياتها، حيث يبرع صاحب "بيت القبطية" مجدداً في تقديم رواية أصوات نابضة، لا تكتفي بسارد واحد، بل تقدم الوقائع عبر وجهات نظر مختلفة تمنح القارئ رؤية بانورامية للأحداث والوقائع.
لن تكتفي الشخصيات الثلاثة بسرد الحكاية، لكن كلًا منها تقلب ما ظنناه الحقيقة مرة بعد مرة، لتقدم حقيقة جديدة ولتزيح الستار عن تفصيلة غائبة تجعلنا نعيد ترتيب الأحداث من جديد كلما ظننا أنها استقرت ولم تعد تحتمل التكذيب أو التشكيك، وكأننا نشهد الأحداث لحظة وقوعها ونكتب الرواية رفقة أبطالها، وفضلاً عن الشخصيات الرئيسية تنهض العديد من الشخصيات التي لا يمكن وصفها بالثانوية، حيث تلعب أدوارا فاعلة وحاسمة في تحريك الصراع وتشكيل الحدث ما يجعلها قادرةً على البقاء للأبد في ذاكرة قارئها.
في "صالة أورفانيللي" تتشابك العلاقات فيما بينها وتتعقد حتى يظن القارئ انه يستحيل فكها، لنفاجأ بخيط رفيع يربط بينها في نهاية كل جزء من أجزاء الرواية، يجذبه المؤلف برفق كل مرة لنجد أنفسنا أمام تحولات درامية جديدة مُربكة، وأحداث متسارعة شديدة الغموض، تتسلل عبر النص بسلاسة فائقة لتعرية سلوكيات مجتمع تعامل بعض أفراده في علاقاتهم الإنسانية بنفس طريقة مزايدتهم على قطعة فنية غالية، لكن لا أحد يخسر دائما، ولا يوجد فائز للنهاية.
بقراءتك لهذه الرواية ستتعرف على خبايا المزادات، هذا العالم الغامض الذي سيطر عليه اليهود المصريون من بدايات القرن الماضي، وحتى ما بعد قيام ثورة يوليو، ستقرأ وكأنك ترى كل الحيل وطرق الخداع ونوعية الزبائن وانفعالاتهم، لتكتشف جانبًا من حقيقة الوجوه المدفونة خلف الأقنعة.
ولن يغيب عن العشماوي في خضم هذا التشابك السردي تحليل أسئلة الواقع والعالم والنفس الإنسانية، واستخلاص الأفكار العميقة من تُربة الحدث، بحيث تكون المحصلة رواية شديدة الحيوية يسكنها التأمل.
"صالة أورفانيللي" ليست فقط رواية التاريخ، ليست فحسب تلويحة للماضي أو مساءلة له أو حتى محاكمة جديدة لعدد من وقائعه، لكنها في عمقها رواية الحاضر، وسؤال مفتوح مثل جرح على المستقبل، حيث تنعكس تناقضات لحظتنا على مرايا جميع ما فات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة