توالت السنوات حتى وصلنا إلى سنة 56 هجرية، وفيها شرع معاوية فى أخذ البيعة لابنه يزيد، وهو الحدث الخطير فى التاريخ الإسلامي، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة ست وخمسين"
وذلك فى أيام معاوية.
ففيها: شتى جُنادة بن أبى أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود. ويقال:
فيها: غزا فى البحر يزيد بن سمرة، وفى البر عياض بن الحارث.
وفيها: اعتمر معاوية فى رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبى سفيان.
وفيها: ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل: قثم بن العباس بن عبد المطلب.
قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد.
فقال: أما لقد اصطنعك أبى ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذى لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت على هذا - يعنى يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندى فقد يحق على الجزاء به، وقد كان من شكرى لذلك أنى طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور ولست بلائم لنفسى فى التشمير.
وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير منى وأقرب برسول الله ﷺ، وأما فضل أمك على أمه، فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك - يعنى أن الغوطة لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان - كان يزيد خيرا وأحب إلى منهم.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر فى أمره، وقد عتب عليك فى فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم فى مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون فى يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.
وفيها: دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولى عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا فى حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص.
فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولى العهد، فسأل ذلك من أبيه.
فقال: من أمرك بهذا؟
قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى فى ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة فى توطيد ذلك.
وكتب معاوية إلى زياد يستشيره فى ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثنى رأيه عن ذلك، وهو عُبيد بن كعب بن النميرى - وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا.
فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعى فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك فى هذا الوقت.
فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية فى نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس فى سائر الأقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبى بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس.
فركب معاوية إلى مكة معتمرا، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم فى الكلام، عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق.
وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لمّا تهددهم وتوعدهم، فاتسقت البيعة ليزيد فى سائر البلاد.
ووفدت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الأحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك؟
فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به فى ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمة.
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي، أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده.
ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة فى هذا المعنى.
ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إنى خفت أن أذر الرعية من بعدى كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ.
فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف.
وقد عاتب معاوية فى ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه.
وقال له سعيد فيما قال: إن أبى لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك على وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إلى فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق، وأمك قرشية وأمه كلبية فهى خير منها، وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك، لكان يزيد أحب إلى منكم كلكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة