تقدمت «الرابطة الشرقية» برئاسة عبدالحميد البكرى، نقيب الأشراف إلى «جمعية الأطباء» بمجموعة أسئلة واستيضاحات حول: «أيهما يعد لباسا صحيا، القبعة أم الطربوش»؟
كان السؤال انعكاسا لمعركة ساخنة عاشتها مصر عامى 1925 و1926، ودارت حول «الطربوش، والقبعة، والعمامة»، ويرصد وقائعها الكاتب الصحفى جمال بدوى فى كتابه «المصور شاهد عيان على الحياة المصرية»، مشيرا إلى أنها «تحولت إلى حرب ضروس بين أنصار كل طرف، وبدأت من كلية دار العلوم حيث ظهرت الدعوى إلى التخلى عن الزى الأزهرى المكون من الجبة والقفطان والعمامة، وارتداء البدلة والطربوش كغطاء للرأس، ثم دخلت القبعة إلى الحلبة لتطيح بالطربوش عن عرشه الذى تربع عليه عدة قرون باعتباره رمزا للسيادة التركية، التى تخلصت منها مصر بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، وانتصار الثورة الكمالية»، التى قادها مصطفى كمال أتاتورك الذى تشدد فى إزالة كل معالم العثمانية، وفرض على الأتراك لبس القبعة والملابس الأوروبية».
يؤكد «بدوى» أن ما حدث فى تركيا بتحريم لبس الطربوش سرت عدواه فى مصر، استنادا إلى أن البلد الذى نبع منه الطربوش خلعه، فلماذا نتمسك به نحن فى مصر؟! كما أن الطربوش يرمز إلى العنجهية التركية التى أذاقت المصريين الوبال، ولكن أنصار الطربوش رفضوا هذا التبرير، وحجتهم فى ذلك أنه اكتسب من طول استعماله، صفة «المواطنة»، وصار رمزا للقومية المصرية والانتماء الوطنى فى مهاجمة الهجمة الأوروبية الاستعمارية، والتخلى عنه سيؤدى إلى الذوبان فى موجة التغريب التى اتسع مداها فى ذلك الوقت، وكان رمزها القبعة أو البرنيطة كما كانت تسمى حينئذ».
يذكر «بدوى» أن كبار الكتاب والأدباء والصحفيين دخلوا هذه المعركة، فكتب فكرى أباظة على صفحات المصور بعنوان «الحرب الطاحنة» محذرا: «إن لهيب هذه الحرب سيمتد إلى الأرياف وقراها فى القريب العاجل، وستصل العدوى من دار العلوم، إلى القضاء الشرعى، فالأزهر، فالجامع الأحمدى، فالمعهد الدسوقى، فمعهد الزقازيق، ثم تصل إلى مدارس المعلمين والمكاتب الأولية، ولا نعلم لمن سيكتب النصر، أللطربوش أم للعمة؟»، يضيف أباظة: «الزى ما كان فى وقت من الأوقات أصلا من أصول الشرائع، وإنما هو مظهر من مظاهر الذوق، فتغييره لاعلاقة له بالشرع»، «وتساءل: هل يقبل الأساتذة الثائرون من طلبة دار العلوم أن يصبحوا فى العهد القريب «خواجات» ومع ذلك يحفظون أحاديث البخارى ويقرأون فى كتاب الزمخشرى والقلقشندى؟».
بعد أن كانت المعركة بين «العمة» و«الطربوش» دخلت القبعة طرفا ثالثا وفقا لـ«بدوى»، حيث قامت مجلة «الهلال» باستطلاع رأى اثنين من كبار الكتاب، أحدهما يدافع عن الطربوش وهو الأستاذ مصطفى صادق الرافعى، والثانى يناضل من أجل القبعة. وهو الدكتور محمود عزمى.
قال «الرافعى» فى دفاعه عن الطربوش: «القبعة على رأس المصرى فى مصر تهتك أخلاقى، والطربوش لم يضق، وإنما ضاقت العقول، أو ضاقت الأخلاق، وهذه الأمة منكوبة بالتقليد والمقلدين»، أما الدكتور محمود عزمى، فأعلن أنه يحدد لنفسه اليوم الأول من شهر يوليو سنة 1925 ليلبس القبعة، ويؤكد «عزمى» أنه منذ يوم العشرين من شهر يونيو 1925 أعلن كل من قابله من الإخوان والأصدقاء أنه مغير لباس الرأس.
تواصلت المناقشات من صيف عام 1925 حتى عام 1926 ووفقا لتأكيد «بدوى» مضيفا: «اتسع نطاقها وزادت سخونتها بفتوى لشيخ الأزهر والمفتى بتحريم لبس القبعة، مضيفا: «استندت الدولة إلى هذه الفتوى فى حظر وضع القبعة على رؤوس الطلاب، كما أنها أصبحت أيضا عنصرا من عناصر الصراع بين مرشحى حزب الحكومة «الاتحاد» والأحزاب الثلاثة المؤتلفة «الوفد، والأحرار، والوطنى» فى الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى مايو 1926، حيث أخذ مرشحو «الاتحاد» يفخرون بأن حكومتهم حين منعت المصريين من لبس القبعة، إنما منعت أكبر ضرر كان ممكنا أن يحيط بمصر وبنيها، فى حين ردت جريدة «السياسة الأسبوعية» ساخرة من هؤلاء الذين يعتبرون لبس القبعة «هادما لأصول الشريعة الحنيفية».
يذكر «بدوى» أن «الرابطة الشرقية» كانت هى التى تحتضن فصائل هذه المعركة فوق منبرها، لكنها هربت من إصدار قرار حاسم فى القضية، حتى لا تتورط فى الانحياز إلى القبعة ضد العمة والطربوش، فتتهم بالمروق والخروج على الشريعة، وأحالت الموضوع إلى «هيئة كبار الأطباء»، التى كانت بمثابة نقابة، فلم تتعرض للمسألة من جانبها الدينى، واقتصر قرارها على الناحية الصحية فقط، حيث أعلنت يوم 2 يوليو، مثل هذا اليوم، عام 1926: «الطربوش لباس رأس غير صحى، وأن للباس الصحى شروطا متوافرة فى القبعة وغير متوافرة إلا فيها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة