قد تبدو الكتابة الآن عن الفيلم الوثائقي الطويل "من وإلى مير" سيناريو وإخراج ماجي مرجان، متأخرة نوعًا ما، خصوصًا بعد حصوله على جائزة مسابقة الفيلم المصري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة منذ نحو شهر، لكن في تقديري أن هذه مسألة ثانوية لأكثر من سبب، أولها أن الكتابة عن الأفلام لا تحتاج إلى مناسبة أو موعد معين، ثانيًا أن العرض الأول لهذا الفيلم كان في مهرجان أسوان، أي أنه مازالت أمامه فرص أخرى للعرض وبالتالي للكتابة عنه، ثالثًا أنه فيلم يستحق الالتفاتة والتوقف، ربما لأنه يصنع حالة وجدانية تعمل بأقصى طاقتها، ولا تترك المتفرج إلا وعقله يأكله الفضول، حتى يسأل نفسه: كيف دخلت هذه الحالة؟
هذه الحالة المثيرة هي ما تقدمه ماجي مرجان في فيلمها، استغرق تصويره حوالي 12 عامًا بدءً من العام 2008 وحتى العام 2020 على أكثر من مرحلة، ما يعني أنه احتوى واقعيًا ودراميًا قسمين: قبل العام 2011 ثم ما بعده، بكل الأحداث المشحونة بالتغيرات الحادة التي طالت المجتمع المصري على مستويات عدة، والمغزولة بتفاصيل كثيرة تبدو كأنها منبثقة من رغبة شخصية في إضفاء مناخ حميمي، يساعد شخصيات الفيلم على السرد والحكي، لكن مع بعض التركيز والتواصل، نجد أنفسنا أمام فيلم يخرج من إطار تصيد الحنين واستعادة الذكريات، إلى إعادة قراءة اللحظة الحاضرة في ضوء الماضي، ومنها محاولة لاستشراف المستقبل.
من هذه النقطة تسافر المخرجة إلى "مير" التابعة لمركز القوصية في محافظة أسيوط، بما تحمله هذه القرية الصعيدية من سمات شديدة الخصوصية؛ من جهة تركيبتها الديموغرافية؛ حيث أغلب مواطنيها من المسيحيين، ومن جهة أخرى حكايات الجدة التي سكنت وجدان المخرجة، فجعلتها شديدة التعلق بمكان لا تعرفه سوى في خيالها، ومن هنا قررت حينما أتيحت لها الفرصة أن تركض نحوه، تكتشف أسراره وطوية هذا المكان الذي لم يفارق قلب الجدة، بالرغم من مغادرتها له مع أسرته، تاركة الجنوب كله إلى الشمال، الإسكندرية، الطرف الآخر من الخريطة.
خلال 62 دقيقة ورغم أهمية كل لحظة في الفيلم، لما فيها من تكثيف لحكايات وأحداث، إلا أنه يتمحور حول محطتين كما سبق وأن أشرت، الأولى في العام 2008، وفيها محاولات الاكتشاف والتعرف على جغرافيا الحجر والشجر وطبائع البشر، ثمة حاجة ملحة تستدعي معاينتها لقريتها عن كثب، حاجة إلى طمأنينة ما كما في صوت الجدة التي كانت تقول لها دومًا:" من القلب للقلب رسول"، وهذا ما أدركته من المشاعر المترعة بالمحبة والبشاشة من أهل قريتها.. صحيح أن الزمن اختلف عن زمن جدتها، لكن ظل هناك ملمح رئيسي وهو أن أهل "مير" لديهم دوافع قوية تحثهم على الهجرة، كما فعلت أسرة المخرجة.
القسم الأول من الفيلم فيه حيوية الاكتشاف والتحرك نحو نقطة مجهولة، تدخل المخرجة البيوت بما فيها بيت العائلة القديم، تلتقي بناس القرية لقاءات متقاطعة مع ناس عائلتها ومنهم الذي يحكي باللغة الإنجليزية أكثر من العربية، هذا التناقض بين الصورتين ليس جارحًا وإنما كاشفًا لطبيعة المكان، فنعرف من خلاله أعلام المكان سواء أثريائه أو علمائه مثل الدكتور بنجامين بهمان الذي رحل عن "مير" إلى حلوان في الأربعينيات وأسس مستشفى الصحة النفسية الشهير والذي يحمل اسمه، وكذلك نعرف بسطاء المكان برحابة قلوبهم، رحابة ممزوجة بقلق خفي، كأن الكاميرا التي تصورتهم اخترقت ما بداخلهم من تساؤلات.
لكن كل شيء يتبدل ويحتاج إعادة قراءة في القسم الثاني من الفيلم، وزمنه بعد العام 2011، فكما إختفى الصبي روماني الذي ملأ الشاشة همة وحماسة وأراء فعالة.. خفيف الظل، المنتقد والساخر من فكرة الانتحار السائدة بين شباب قريته، اختفت أيضًا الرحابة وساد اليأس الذي امتد لملامح الوجوه.. تعود المخرجة بعد سنوات ليستقبلها الصمت ورفض الأهالي للتصوير، كما فعلت المرأة التي مازال زوجها في الكويت ومازالت هي تنتظره.. الصغار كبروا وأحلامهم لم تتحقق، عائلة روماني لم تعد على عهدها، وروماني نفسه مات بالتسمم.. على ما يبدو هو أيضًا انتحر بنفس الطريقة التي استخدمها السابقون.. الساخر من الانتحار لم يتحمل وانتحر هو الأخر، لم يقلها الفيلم صراحة، ربما أرادت المخرجة أن تخفف من وقع الصدمة، لكن كل الشواهد دلت على ذلك، والصدمة لم تخفف أو تنقص.
روماني صبي جميل، كان مشروعًا لإنسان حكيم ومفكر، لعقل واعِ، لكن الواقع الضنين في القرية الطاردة لناسها لم يعطه الفرصة ليصبح شيئًا من هذا.. من لم يستطع العيش في هذا الواقع غادر القرية إما بالهجرة أو الانتحار، قصص المنتحرين مثيرة لم تخرج عن خط الفيلم، تمكنت ماجي بإتقان من تضفيرها داخل الحكاية الأساسية.
اللعبة، التي اختارتها ماجي مرجان في "من وإلى مير"، مفتوحة على الصنيع السينمائي والحال الواقعي والنفسي والتأملي، التداخل بين كل هذه الأشياء هو جزء من البناء الدرامي للسرد الذي إنتهجه الفيلم، شهادة جديدة كتبتها وصورتها ماجي مرجان، تذهب بها إلى أعماق ناس يرغبون في حياة رؤوفة، ناس يعانون ببقائهم أحياء، وأخرين يغادرون إما بالهجرة أو بالانتحار تاركين الحسرة والألم.
الفيلم نوع مميز في السينما الوثائقية، ليس مجرد صورة مغرية أو موضوع لافت، وإنما هو تتبع فطِن ومتوقد لعلاقة الأرض والناس، المكان والبشر، كيف كانوا وكيف صاروا؟.. هذه العلاقة يمكن اعتبارها نوعًا من الجدل أو حتى الاعتراك مع الحياة، وهذا النوع يحتاج عينًا ثاقبة، حساسة، مرهفة، وهذا موجود بوفرة في الفيلم، حيث نجد التفاصيل كثيرة وموزعة بين الميلاد والصبا والزواج ثم الشيخوخة وحتى الموت، تفاصيل تمكنت ماجي من الإمساك بها وتوثيقها، كما كان يفعل هذا الرجل من أهل القرية، الذي كان يدون في دفتره الميلاد والزواج والموت.. الفيلم يدفعنا إلى التفكير والتأمل وفي ذات الوقت يمس وجداننا العاطفي.
لا يختلف هذا الملمح التأملي في الفيلم عما سجلته ماجي مرجان في فيلمها الروائي الأول "عشم" (2013)، بمعنى أن أسلوبها يحث على التفكير والتبصر، في "عشم" مثلًا اعتمدت مسار غير تقليدي، كأنها تتبادل رسائل خفية بين جمهور يعيش واقعه على المحك وفيلم يحاول أن يجتاز هذا المحك، قدمت ست قصص منفصلة، لكنها متصلة في ذات الوقت برباط يتمحور حول جرح مجتمع يدوس على إنسانيته، حول فواصل كبيرة بين البشر تزيد من مساحة البعد والانفصال، ومع ذلك يحاول الفيلم أن يتشبث بالأمل، فكما يحمل كمًا كبيرًا من القلق والارتباك يحمل أيضًا قدرًا كبيرًا من الحب للمدينة وناسها.
إذن الاشتغال على معنى الصورة ومفاهيمها وعلاقتها بالواقع، وإمكانية إلتقاط نبض اللحظة في الحكاية، هو ما يمكن أن يُلخص مشروع ماجي مرجان الذي إحتوى حتى الآن تسعة أفلام تأليفًا وإخراجًا، منها سبعة أفلام قصيرة: "المنور، عشان فريدة، عندليب، فستق، من النهاردة، رايحين على فين، أما أنا".. وبهذا المفهوم قدمت "من وإلى مير" في مساحة زمنية تضمنت الإنساني والجمالي والفني، تصنع توثيقًا بصريًا يقتفي أثر البشر والمكان، كما كان للحكايات الفردية فيه أهمية، حيث تعكس الواقع ومساراته وتكشف عن المصائر وتغيرات الزمن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة