"إنهاء مهمة القوات الأمريكية في العراق".. يبدو أنه العنوان الأبرز، الذى أعقب لقاء رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى، مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، بالبيت الأبيض، في الأيام الماضية، لتضع واشنطن "كلمة النهاية"، على مسلسل بدأته منذ حوالى عقدين من الزمان، تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، حمل في ظاهره وعودا براقة، بينما كانت "أوهام" الديمقراطية والاستقرار، أهم ما صدرته أمريكا للعالم، لـ"شرعنة" الغزو، الذى بدأ في 2003، دون رخصة أممية، سعت إلى استبدالها بـ"تحالف"، يبدو هو الأخر وهميا، عبر مشاركة رمزية من بريطانيا فرنسا، لإضفاء قدر من الشرعية الدولية على تحركها، والذى فشل أولا في الحصول على مباركة الأمم المتحدة، قبل أن يفشل بعد ذلك في تحقيق تلك الشعارات التي رفعتها الإدارة الأمريكية التي ترأسها آنذاك الرئيس الأسبق جورج بوش.
ولعل الإعلان عن نهاية المهمة القتالية الأمريكية في العراق، أعقب الإعلان عن انسحاب أخر من أفغانستان، والتي دخلتها القوات الأمريكية منذ 2001، بنفس الحجة، ليصبح الإعلانان معا بمثابة إعلان ضمنى أوسع نطاقا، بنهاية حقبة مهمة في تاريخ الصراع الدولى، انطلقت مع أحداث الـ11 من سبتمبر، ليصبح العالم على موعد مع انطلاق مرحلة جديدة، تتجه فيها واشنطن نحو مناطق جديدة من العالم، لتشكيل تحالفات جديدة، يمكنها من خلالها تكوين معسكر جديد، يتلاءم مع معطيات العالم الجديد، وطبيعة المنافسة مع قوى جديدة، على رأسها الصين وروسيا، عبر التوجه نحو منطقة المحيط الهندى، على حساب الحلفاء التاريخيين، في العديد من مناطق العالم.
ولكن تبقى الخطوة الأمريكية، مؤشرا على حالة من الفراغ الأمني، في العراق، إذا ما وضعنا في الاعتبار الخطر الكامن في وجود العديد من الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، والذى يسعى إلى العودة من جديد، بعد سلسلة من الهزائم المتواصلة، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا صريحا لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، والتي تبقى محورية، رغم تغير الأولويات في المرحلة الراهنة، خاصة إذا ما نظرنا إلى حالة الشد والجذب الأمريكي مع إيران على خلفية الاتفاق النووي، بالإضافة إلى احتمالات فتح بوابة جديدة للنفوذ الروسى في منطقة الشرق الأوسط، بعد النجاح الكبير الذى حققته موسكو في سوريا، خاصة فيما يتعلق بدحض التنظيمات الإرهابية هناك، في السنوات الماضية.
وهنا يثور التساؤل حول ماهية الرهان في العراق، في مرحلة "ما بعد الانسحاب العسكرى"، خاصة وأن تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية، سيكون بمثابة "بذرة" جديدة للفوضى في المنطقة، خاصة إذا ما نجحت الميليشيات المتطرفة من العودة من جديد، في ظل هشاشة الأوضاع الأمنية، وما يمثله ذلك من تهديد لدول الجوار العراقى، وعلى رأسهم الدول العربية.
وهنا يمكننا تفسير الخطوات المتسارعة التي اتخذتها القوى العربية الرئيسية في المنطقة استباقا للإعلان الأمريكى، والتي تحركت نحو التقارب مع بغداد في الآونى الأخيرة، وهو ما بدا في القمة الثلاثية التي جمعت الرئيس عبد الفتاح السيسى، وملك الأردن، مع رئيس الوزراء العراقى، في العاصمة العراقية، ناهيك عن الزيارة التي قام بها الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط للعراق، قبل عدة أشهر، ليلتقى هناك بكافة مكونات المشهد العراقى، في محاولة ناجحة لإضفاء "غطاء" العروبة على دولة تعانى من الاستقطاب الإقليمى منذ سنوات طويلة، في انعكاس صريح لرغبة متبادلة بين الحكومة العراقية ومحيطها العربى في التعاون، في المرحلة المقبلة، لحماية الدولة ومواطنيها من تداعيات الانسحاب العسكرى الأمريكي.
الانفتاح العراقى على العرب تجسد في العديد من الشواهد، أبرزها القمة الثلاثية التي عقدت مع مصر والأردن الشهر الماضى، في خطوة تمثل تحالفا مهما، يمكن من خلاله تحقيق التعاون الاقتصادى والسياسى والأمنى بالإضافة إلى التقارب الكبير مع العديد من القوى العربية الأخرى، على غرار السعودية، ناهيك عن السعي نحو دور أقوى لجامعة الدول العربية، في بغداد في المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى تجسد في مطالبتها بإرسال مراقبين للإشراف على الانتخابات المقبلة، بالإضافة إلى استقبال أمينها العام في مارس الماضى، والذى أكد على الدعم الكامل لبغداد.
يبدو أن الفراغ المترتب على الانسحاب الأمريكي من العراق، سوف يدفع إلى المزيد من التقارب مع الدول العربية، سواء فرديا، أو جماعيا، في إطار حقيقة مفادها أن الوضع في بغداد سوف يترك تداعيات كبيرة على المنطقة في أسرها، وهو الأمر الذى ربما يمثل فرصة مهمة للعرب في المرحلة المقبلة، لتحقيق المزيد من التضامن، وإحياء مفهوم الأمن القومى العربى، بعدما توارى لسنوات عدة، ربما سادتها الفوضى، خاصة خلال العقد الأخير، مع اندلاع ما يسمى بالربيع العربى، والتي أصبحت فيه الأولوية للأمن الداخلى لكل دولة، خوفا من انتشار فيروس عدم الاستقرار الذى ضرب العديد من دول المنطقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة