ينفرد "اليوم السابع" بنشر فصل من مذكرات الكاتب الكبير محمد سلماوى "العصف والريحان"، والتى تصدر عن دار الكرمة، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، فى دورته الثانية والخمسين، التى تستمر فعالياتها حتى 15 يوليو الجارى، بمركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس، تحت شعار "فى القراءة حياة"، وحصل اليوم السابع على فصل بعنوان "المتحدث الرسمى" ننشره تباعًا على حلقات يومية، وأمس تم نشر الحلقة الثانية التى تناولت لقاء المستشار عدلى منصور رئيس الدولة فى ذلك الوقت بعدد من المثقفين، والذى طرح خلاله موضوع الدستور، وكواليس تشكيل لجنة الخمسين، وفى حلقة اليوم الثالثة يتناول الكتاب ما كان يحدث داخل لجنة الخمسين والتنافس على رئاسة اللجنة.
غلاف المذكرات العصف والريحان
وكانت لعمرو موسى عدة وسائل استمتعت بمتابعتها فى إدارة الصراعات التى كانت تتفجر داخل اللجنة، وهى وسائل لا يقدر عليها إلا المفاوض المحنك، فما إن يتفجر الخلاف بين طرفين داخل اللجنة حتى كان الرئيس يستقبل الطرفين فى مكتبه بعد الجلسة، وفى بعض الأحيان قبلها استباقًا للخلاف المتوقع، حيث كان يتناقش أولًا مع كل طرف على حدة، فى محاولة لفهم وجهة نظره وللتقريب بينها وبين وجهة النظر الأخرى، ثم يجمعهما معًا، فكنا نفاجأ فى الجلسة التالية باتفاق الطرفين، أو بوصولهما إلى حل وسط. وكان من بين تلك الوسائل أيضًا دراسة الموضوعات الشائكة فى لجنة مصغرة، حيث يسهل الوصول إلى اتفاق أكثر مما لو طرح الموضوع على اللجنة بكامل أعضائها الخمسين، وهو ما تم على سبيل المثال مع موضوع المحاكمات العسكرية والذى كان ينبئ بمواجهة لا تؤمن عقباها، فقد تشكلت لجنة مصغرة بين الجانبين توصلت بعد عدة اجتماعات إلى صيغة لاقت قبول اللجنة العامة عند طرحها عليها. وقد كانت هذه الوسيلة، إلى جانب تذليلها للخلافات، توفر أيضًا وقت اللجنة التى كانت ملتزمة بستين يومًا فقط ترفع بعدها مُسوَّدة الدستور إلى رئيس الجمهورية المؤقت، لطرحها للاستفتاء الشعبى فى الموعد المحدد سلفًا، مما كان يجعلنا بالفعل فى صراع مع الوقت.
على أن عمرو موسى كانت له فى الوقت نفسه وسائل خفية لا يعرفها أحد تساهم فى تخفيف حدة التوتر داخل اللجنة، منها مثلًا أنه كان يخطئ دائمًا فى اسم أحد الأعضاء فيقوم العضو بتصحيح اسمه، وقد تكرر ذلك أكثر من مرة مع العضو نفسه فكان الأعضاء ينفجرون بالضحك، وكان هذا العضو فى كثير مما يطرحه يعبر عن انحياز واضح إلى فكر الإخوان، وكانت تصل به الحال إلى أن يقارن بين المادة التى نقترحها وبين مثيلتها فى دستور الإخوان المعطل، ويطالب بالالتزام بما ورد فى الدستور الذى ثارت الجماهير عليه وعلى أصحابه، وفى إحدى المرات صرخ فيه أحد الأعضاء قائلًا:
- إذا كان المطلوب هو الالتزام بدستور الإخوان فلماذا جئتم بنا إلى هذه اللجنة؟!
وفى إحدى الجلسات طلب هذا العضو الكلمة أثناء مناقشة أحد الموضوعات الخلافية، وكان الجو مشحونًا مما كان ينبئ بمواجهة قادمة تتعالى فيها الأصوات ويترك فيها البعض القاعة احتجاجًا، وحين جاءت لحظة حديث العضو المذكور كنت أسلم رئيس اللجنة بعض الأوراق، وخشية أن يخطئ فى اسم العضو مرة ثانية مِلْت عليه وذكرته باسم العضو، ففوجئت به يقول لي:
- ما أنا عارف.
ثم نادى على العضو بالاسم الخطأ، فقام العضو كالمعتاد بتصحيح الاسم وسط ضحك وتصفيق الأعضاء، مما أحدث جلبة داخل اللجنة غطت على حديث العضو، فلم يجد كلامه أى استجابة من الأعضاء وانتقلنا إلى موضوع آخر.
الرئيس عدلي منصور يستقبل عددًا من المثقفين في يوليو ٢٠١٣
ونظرًا لالتزام عمرو موسى بالديمقراطية الكاملة، وحرصه على إتاحة الفرصة لكل عضو فى التعبير عن رأيه من دون مصادرة، كان الأعضاء على تباين اتجاهاتهم يثقون فيه ويرتاحون لرئاسته للجنة. وقد كان هناك فى البداية بعض رواسب التنافس على رئاسة لجنة الخمسين بينه وبين سامح عاشور، وخشيت أن يتفاقم الموقف مما كان سيعرقل عمل اللجنة، فتحدثت إلى كل منهما ووجدت استعدادًا متبادلًا لتجاوز الموضوع، فقمت أنا وسامح بزيارة ودية إلى مكتب رئيس اللجنة، الذى رحب بنا وتمت تصفية الموضوع. وقد رأس سامح عاشور لجنة غاية فى الأهمية، هى لجنة الحوار والتواصل المجتمعي، المكلفة بالتواصل مع مختلف دوائر المجتمع لاستطلاع رأيها، وبتلقى مقترحات الجمهور بشكل عام. وكانت اللجنة تستقبل فئات مختلفة من الشعب للاستماع إلى مقترحاتهم وترفعها بعد ذلك للجنة العامة.
وعلى الرغم من ذلك الإجماع الذى حظيت به إدارة عمرو موسى للجنة الخمسين، والذى جعل كثيرًا من الأعضاء يتساءلون عن حال اللجنة لو لم يكن عمرو موسى على رأسها، فإن الصديق العزيز السيد البدوى قال لى وقتها ما أدهشني، وهو أن عمرو موسى لم يكن اسمه واردًا أصلًا فى قائمة الأعضاء، وحسب روايته فإن السيد البدوى أُخطِر قبيل إصدار الرئيس عدلى منصور قراره بتشكيل اللجنة أنه سيكون ضمن أعضائها، وتصور البدوى أن عمرو موسى أيضًا سيكون عضوًا فى اللجنة، فقد كان له دور بارز فى جبهة الإنقاذ التى تأسست فى ديسمبر 2012 وضمت بعض أكبر الأسماء الفاعلة فى الحياة السياسية وقتها، ولم يستطع الإخوان تجاهله حين شكلوا اللجنة التأسيسية للدستور، لكنه اختلف معهم بعد عدة جلسات وترك اللجنة مع مجموعة أخرى من الأعضاء.
وقال لى السيد البدوى إنه اتصل بعمرو موسى يسأله إن كان أحد قد أبلغه بعضويته فى لجنة الخمسين فنفى له ذلك، مما أثار دهشته، وكان تقدير السيد البدوى أن السفير محمد البرادعى هو الذى كان وراء هذا الاستبعاد، بسبب الخلاف الشديد الذى كان بينه وبين عمرو موسى فى جبهة الإنقاذ وتنافسهما على قيادتها. وكان البرادعى وقتها ذا تأثير داخل رئاسة الجمهورية التى شغل فيها لفترة موقع نائب الرئيس، إلى أن استقال قبل أسبوعين فقط من صدور قرار تشكيل لجنة الخمسين.
ويقول السيد البدوى إنه اتصل شخصيًّا باللواء محمد العصار، نائب وزير الدفاع ووزير الإنتاج الحربى فيما بعد، قبل صدور قرار تشكيل اللجنة بـ٤٨ ساعة، مبديًا له دهشته من عدم إدراج اسم عمرو موسى ضمن تشكيل اللجنة، فوعده بالتدخل.
وفى اليوم التالى صدر القرار الجمهورى متضمنًا اسم عمرو موسى ضمن الشخصيات العامة، جنبًا إلى جنب مع الدكتور مجدى يعقوب، والدكتور عبد الجليل مصطفى، والدكتور جابر جاد نصار، والدكتور محمد غنيم، وكمال الهلباوي، والدكتور سعد الدين الهلالي، والدكتور عمرو الشوبكي، والكاتب النوبى حجاج أدول، والشاعر السيناوى مسعد أبو فجر، ودكتورة هدى الصدة.
بدأت مهمتى كمتحدث رسمى بأن أعددت تقريرًا عن خطة العمل التى سأتبعها وعرضتها فى إحدى الجلسات على اللجنة فأُقِرَّت، على أن مهمتى كانت مهمة صعبة ودقيقة، وبعض الصعاب التى واجهتنى كانت كفيلة بأن تجعلها مهمة شبه مستحيلة.
ففى ظل القرار الذى اتخذه رئيس اللجنة بأن تكون الجلسات مغلقة، أصبحت أنا المصدر الرئيسى الذى يمكن من خلاله لأجهزة الإعلام أن تتابع ما يجرى فى لجنة الخمسين، وتحيط الرأى العام بتطورات عملها. لذا كان على أن أعقد مؤتمرًا صحفيًّا يوميًّا، لأن لجنة الخمسين، التى كانت تسابق الزمن لتلحق بالموعد المحدد لإنهاء عملها، كانت تعقد جلساتها بشكل يومي، بما فى ذلك - فى بعض الأحيان - أيام الإجازات.
وقد فرض على موقع المتحدث الرسمى أن أكون فى أكثر من مكان فى الوقت نفسه، فكان على أن أحضر الاجتماعات اليومية للجنة العامة، وأن أتابع ما يجرى فى اللجان المتخصصة حتى تكتمل عندى الصورة التى كان على أن أنقلها للإعلام.
وقد طلبت من مقررى اللجان النوعية أن يحيطونى علمًا بما يجرى فى لجانهم، لكن يبدو أن انشغالهم بعمل هذه اللجان كان يحول دون ذلك فلم يقدموا لى شيئًا، مما اضطرنى لحضور اجتماعات كل من هذه اللجان بنفسى للاطلاع على أعمالها.
من ناحية أخرى لم يكن الزملاء الصحفيون فى حالة مزاجية تسمح لهم أن يكونوا متعاونين معى بالقدر الكافي، فقد استفزهم من البداية قرار جعل الجلسات مغلقة، وكانوا يودون حضورها والاستماع إلى مناقشاتها، بينما ذهب الرأى عند بحث هذا الموضوع داخل اللجنة إلى أن المناقشات قد ترد فيها آراء لا يؤخذ بها فى النهاية، مما قد يحدث بلبلة لدى الرأى العام لو أنها نشرت قبل إقرارها، وأنه من الأفضل نقل ما يستقر عليه الرأى فى النهاية. ولكونى رجل إعلام فقد كنت على ثقة من حسن تقدير الصحفيين، وكان من رأيى أن يُسمح للصحفيين بالحضور، وأن الرأى الذى تستقر عليه اللجنة ستكون له الصدارة مهما نقلت الصحافة من آراء أخرى قبل ذلك. لكن تأكد لى صحة القرار الذى أصدرته اللجنة بجعل الجلسات مغلقة، من خلال الأسئلة التى كان بعض الصحفيين عديمى الخبرة يطرحونها عليَّ، وأذكر على سبيل المثال أننى أعلنت فى أحد المؤتمرات الصحفية أن ذلك اليوم يعتبر يومًا تاريخيًّا، حيث وُضعت للمرة الأولى مادة فى الدستور تنص على كذا، أو تجرم كذا، وتوقعت أن تتركز الأسئلة فى ذلك اليوم حول تلك المادة غير المسبوقة التى تدخل الدستور المصرى للمرة الأولى. لكن أول سؤال جاءنى كان:
- هل صحيح حدثت معركة اليوم بين عمرو موسى وسامح عاشور؟
وعلى الرغم من نفيى لذلك، موضحًا أن التنافس على رئاسة اللجنة صُفِّى فى حينه، فقد حرصت فى المؤتمر الصحفى التالى على أن أدعو كلًّا من عمرو موسى وسامح عاشور إلى الحضور معًا إلى المؤتمر ومقابلة الصحفيين.
ونظرًا إلى أن بعض الصحفيين بدأوا عملهم بمهاجمة قرار إغلاق الجلسات، قائلين إنه حوَّلها إلى لجنة سرية، فقد بذلت جهدًا كبيرًا فى البداية لأوضح لهم أن جلسات اللجنة ليست سرية - كما نشر بعضهم - وأن هناك فرقًا بين الجلسات السرية والجلسات المغلقة، وأنه لو كانت الجلسات سرية لما استطعت أن أحيطهم علمًا بما يجرى فيها كما أفعل كل يوم. وشرحت أن هذا القرار ليس موجهًا ضد الصحفيين، فجلسات اللجنة مقتصرة على من لهم حق التصويت فقط، لذلك فلا يحضرها الأعضاء الاحتياطيون، فهؤلاء كانت اللجنة فى البداية قد استمعت إلى آرائهم وناقشت مقترحاتهم، ثم حين جاء وقت التصويت اقتصر الحضور على من له هذا الحق. وقلت إنه على الرغم من أننا لن نصل إلى التصويت النهائى على كل مادة إلا فى الجلسات الختامية، فإن رئيس اللجنة كثيرًا ما يطرح موضوعًا معينًا للتصويت المبدئى لمعرفة اتجاهات الرأى داخل اللجنة، وعادة ما يكون ذلك بحصر الأيدى المرفوعة والتى قد يصعب تمييز يد من له حق التصويت ويد من ليس له هذا الحق.
ومع الوقت انقشعت الغيوم، وتراجعت روح التحفز، ونشأت علاقة تعاون أعتز بها مع جميع الزملاء الذين كانوا يتابعون عمل لجنة الخمسين، مما مكنهم من متابعة مناقشات اللجنة يومًا بيوم.
لقد اعتدت فى هذه المؤتمرات على أن أبدأ بتقديم تقرير عما نوقش فى اللجنة فى ذلك اليوم، وعن النتيجة التى وصلت إليها المناقشات، بإقرار المادة المقترحة أو تعديلها أو رفضها، ثم أفتح باب الأسئلة كى يتمكن كل صحفى من الاستفسار عن الجوانب التى يرى لها أهمية خاصة. وحين كان الأمر يتعلق بعمل لجنة معينة، كنت أطلب من مقرر اللجنة أو أحد أعضائها أن يحضر معى المؤتمر الصحفى ليجيب عن أسئلة الصحفيين فى هذا الشأن، وقد حضر معى فى هذا الخصوص منى ذو الفقار وعمرو الشوبكى وسامح عاشور ومحمد أبو الغار ومحمود بدر وآخرون.
أما حين كان الأمر يتعلق بإنجاز مرحلة هامة من عمل اللجنة، مثل الانتهاء من باب كامل من أبواب الدستور، فكنت أدعو رئيس لجنة الخمسين لأن يحضر المؤتمر الصحفى ليعلن ذلك بنفسه على الصحفيين، وكنت حريصًا بين الحين والآخر على دعوة ممثلى الصحافة الأجنبية لإطلاعهم على الشوط الذى قطعته اللجنة حتى ذلك الوقت.
وسعدت عند انتهاء عمل لجنة الخمسين أن الزملاء الصحفيين والإعلاميين، الذين ظلوا يتابعون أعمالها طوال شهرين، أقاموا لى احتفالًا صغيرًا ليقدموا لى شكرهم، ففى ذلك اليوم كنت أستعد للمؤتمر الصحفى الأخير بعد أن أنهت اللجنة أعمالها، فدخلت القاعة لأفاجأ بكعكة كبيرة فوق المنصة أحضرها الصحفيون بأنفسهم كى يعبروا لى عن امتنانهم.