الثانوية العامة ليست نهاية المطاف، هى نهاية مرحلة، لكنها بداية مرحلة أخرى أكثر تعقيدا، والجامعة نفسها بداية لدخول الشاب إلى الحياة العملية والبحث عن عمل، وهذا النقاش يتكرر سنويا بعد إعلان نتائج الثانوية العامة.
الثانوية العامة جزء من منظومة معقدة تقوم على التوتر والقلق، لا الحاصل على مجموع كبير يرتاح ويرى مستقبله، ولا زميله صاحب المجموع الضعيف يرتاح ويرى مستقبله، حالة من الجرى واللهاث، كل الأطراف تعيش قلقا وتوترا و«تلبكا» اجتماعيا وإنسانيا وأسريا.
النقاشات كلها تدور حول المجاميع، وتهاجم الوزير أو نظام الامتحانات والدرجات، وتتجاهل الأسس التى تقوم عليها عمليات الفرز والاختيار، والمسافة التى تفصل بين النظرى والواقع العملى. كل عام هناك شكاوى وتظلمات من التلاميذ، بعضها صحيح وكثير منها وهمى، وطبعا أولياء الأمور يتبعون الأبناء ويصدقونهم، لأنهم فقط ينظرون إلى ما بذلوه من جهد، وما دفعوه من أموال للدروس الخصوصية والكتب الخارجية والملخصات، ولا يريدون الاعتراف بأنهم وقعوا ضحية سماسرة الدروس الخصوصية، الذين أوهموا التلاميذ بأنهم سيقدمون لهم مفاتيح النجاح، وجاءت الامتحانات خارج توقعات أباطرة الدروس الخصوصية.
المأسأة هى أن يظل التلميذ وأهله فى صراع، الاختيار بين العلمى والأدبى، والدروس الخصوصية، ورعب قبل الامتحانات، وقلق فى انتظارالنتيجة، ثم مرحلة اختيار الرغبات، حيث يقود المجموع وليست الرغبات أو الهوايات عملية تحديد الاختيارات.
قد تكون هناك نسبة تعرف ما تريد، لكن الأغلبية تنساق وراء رغبات الأهالى إلى كليات ربما لا تكون ضمن اختياراتهم، أو هواياتهم، وخلال عقود، كان هناك العديد من خريجى كليات «القمة»، لكنهم يعانون من بطالة أو ينتهى بهم المطاف بوظائف لا يحبونها ولا ترضى حاجاتهم المادية والمعنوية، ويواصلون حياتهم بالقصور الذاتى، إذا حصل التلميذ على مجموع كبير يخضع لرغبات أهله ويدخل كلية، بصرف النظر عن رغباته، وتنتهى حياته بالفشل أو التعثر.
ومعروف أن سوق العمل لا علاقة له بأعداد وتخصصات الخريجين، والتقسيم القديم للقمة والقاع فى الكليات أو التفرقة بين الفنيين وأصحاب المؤهلات العليا، خلق توزيعا لا علاقة له بالنتيجة وطبيعة العمل، هذه التفاصيل نعرفها ونراها ونتجاهلها ونسير فى طريق يرسمه السياق العام، والنتيجة معروفة وواضحة، وندور حولها، والسبب نظام تعليمى ظل يتجاهل المجتمع وسوق العمل، وتغيب فيه الاختيارات لصالح الإجبار.
فى الماضى، كان الشباب يختار المضمون، كليات الطب والصيدلة والهندسة، وهى اختيارات لم تعد كافية، ولا توجد وصفة للاختيار تحسم المستقبل، والكثير من الخريجين لا يجدون عملا، ويضيعون وسط الزحام ونقص الوظائف، هناك تخصصات حديثة أكثر حظا، والحال اليوم أصبح أكثر تعقيدا، الجامعات تحاول كل منها تقديم مهارات إضافية لخريجيها، على اعتبار أن اللغات والتخصصات الدقيقة قد تسهل للخريج الحصول على وظيفة.
علينا الاعتراف بأن خيارات كليات القمة لم تعد كافية لضمان مستقبل مستقر، وهذا نتاج السير خلف التيار الغالب فى التنسيق، وأن يختار الطالب، الحاصل على مجموع كبير، كلية الطب أو الصيدلة، ثم يكتشف أنه بحاجة للمزيد من الدراسة والإنفاق ليمكنه المنافسة فى سوق عمل معقد.
وفكرة المثل الأعلى ليست محسومة، التحقق والنجومية والثراء هى من نصيب لاعبى الكرة والنجوم الكبار والأثرياء المعدودين، وأغلبهم لا علاقة لتميزه بالدراسة، وأمر له ظل فى العالم بيل جيتس، أو مارك زوكربيرج، ليسا من المتميزين فى الدراسة، نسبة من الثراء، ولا توجد وصفات جاهزة للأعمال والثراء، والعلماء والباحثون ليسوا على قوائم الثراء، ومع هذا فإن اختيار العلم فى الدول الكبرى يضمن استقرارا وتكافؤ فرص، والأمر كله مرتبط بنظام تعليم مرن، يجعل من السهل تغيير المسار وتعديل الاختيار، وهنا نعود لأهمية تطوير التعليم.