تتردد فى أذنك أجمل أغانيه وأنت فى الطريق إلى منزله وأمام بيته الذى يحمل اسمه، وتوضع على بابه لافتة «عاش هنا الفنان الكبير محمد رشدى»، تزين صوره مدخل البيت الذى وطأته أقدام عمالقة الفن وكباره من أصدقاء الفنان الكبير الراحل محمد رشدى، هنا جلس بليغ حمدى، يحمل هذا العود الذى صنعه صديقه خصيصًا له بمواصفات تتناسب مع التكوين الجسمانى لعبقرى التلحين قصير القامة ممتلئ الجسد، ولا يزال هذا العود يتوسط غرفة استقبال المنزل لينبئك بما يحمله من تاريخ عظيم وذكريات جميلة وإبداع لا يتكرر، يقبع العود الصغير أسفل صورة كبيرة لصاحب البيت الفنان الكبير محمد رشدى، تنير دائمًا بأضواء بيضاء كما ينير صاحبها سماء الفن والطرب والغناء بأجمل ما شهده الغناء الشعبى من أغان ومواويل.
وهنا دائما تواجد الخال عبدالرحمن الأبنودى ليزور أعز أصدقائه ورفيق مشواره الذى جمعهما الفن والإبداع ولم يفرقهما الموت، وهنا ولدت عشرات الإبداعات التى أمتع بها ملك الأغنية الشعبية والموال الفنان الكبير محمد رشدى الملايين فى كل أنحاء الوطن العربى ومن كل الأجيال.
هنا عاش ومات رشدى العرباوى المغنواتى الذى عبر عن صوت العمال والفلاحين، وحمل فنه رائحة البرتقال فى الغيطان والمانجة على الشجر، ومعه حفظنا سيرة أدهم الشرقاوى وأحببنا وهيبة وعدوية، ورقصت الدنيا حين غنى كعب الغزال وعالرملة وطاير يا هوا، وظل يمتعنا حتى وفاته، ويعلمنا حكمة الحياة وهو يغنى دامت لمين وقطر الحياة، رشدى الذى عاش يمتعنا بفنه ومات كما تمنى وهو يغنى.
وأجرى تليفزيون «اليوم السابع» حوارا مصورا من داخل بيته حيث استقبلنا ابنه طارق محمد رشدى ليكشف تفاصيل وأسرار مشوار حياة والده الذى غير شكل الغناء الشعبى فى مصر والعالم العربى، وحكاياته مع الفن والحياة وحقيقة علاقته بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وكيف استطاع مع رفيقيه الأبنودى وبليغ حمدى أن يغيروا شكل الغناء، وكيف كانت علاقة هذا الثلاثى التى استمرت حتى الموت، وكيف تحققت أمنية الفنان الكبير بأن يموت وهو يغنى واقفًا بين الناس، وأهم وصاياه والعديد من الأسرار حول حقبة زمنية من أهم الفترات فى حياة مصر وفنها ومبدعيها.
بدايات العرباوى بين ليلى مراد وكوكب الشرق
جلس الابن ليستعيد بدايات الأب وكيف لعبت الصدفة أدوارًا كبيرة فى حياته، حتى فى اختيار اسمه الفنى.
بدأ طارق محمد رشدى، حديثه عن الأب الفنان الكبير قائلًا «والدى اسمه محمد محمد عبدالرحمن الراجحى من مواليد كفرالشيخ رشيد فى 20 يوليو عام 1928، وانتقل بعد ذلك مع أسرته إلى دسوق وهو فى سن 10 سنوات وتعلم فى كتاب القرية».
عشق محمد رشدى الغناء منذ طفولته وصباه، وعن ذلك قال ابنه، «من صغره بيحب الغناء بسبب عشقه لليلى مراد، كان بيروح السينما علشان يسمعها ويلزق التذاكر مرة تانية علشان يدخل الفيلم مرات متعددة ليسمعها ويراها، وكان يحرص على سماع الفرق والمنشدين فى الموالد ومنها مولد سيدى إبراهيم الدسوقى واستفاد بهذا المخزون فيما بعد، ثم بدأ يغنى فى حفلات القرية وذاع صيته فى البلد وغنى فى بيوت كبار العائلات».
كانت النقطة الفاصلة فى حياة محمد رشدى عندما غنى فى بيت فريد باشا زعلوك، أحد أعيان دسوق، ووعده الباشا أن يرسله إلى القاهرة للدراسة فى معهد الموسيقى إذا نجح فى البرلمان، وبالفعل نجح الباشا وأقام الاحتفالات وجاءت كوكب الشرق لتغنى فى الحفل.
يحكى ابن محمد رشدى عن هذه الحفلة التى جمعت والده بكوكب الشرق: «فريد باشا قال للست أم كلثوم عندى صوت حلو عاوزك تسمعيه، وبالفعل غنى أمامها والدى وكان عمره حوالى 15 سنة أغنية «يا أتوموبيل يا جميل محلاك» للمطربة ملك، وبعد أن انتهى نادته كوكب الشرق، وقالت له وطى كدة هاقولك حاجة، وهمست فى أذنه: اسمه اتوموبيل مش يااتومبيل يا فلاح، انطق صح وهزرت معاه، وقالت لعضو البرلمان حرام الولد ده يقعد هنا لازم ينزل مصر ويلتحق بمعهد الموسيقى وهو ما حدث».
البداية بورقة من صندوق قمامة
يشير ابن محمد رشدى إلى أن أهل البلد قرروا أن يرسلوا رشدى ليشق طريقه الفنى فى القاهرة، وأن ينزل إلى أحد أبناء قريته واسمه أحمد المنشاوى وكان يعمل فى مكتب موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وبالفعل جاء رشدى مع أحد أهالى القرية للقاهرة وفى أول ليلة بكى من الرهبة خوفًا من مصيره فى القاهرة التى لا يعرفها، وفى اليوم التالى توجه إلى مكتب موسيقار الأجيال ليقابل أحمد المنشاوى الذى ظن أنه يحتل مكانة ومركزًا مهمًا فى مكتب عبدالوهاب.
يضحك الابن قائلًا «ذهب أبى إلى مكتب عبدالوهاب وسأل عن قريبه المنشاوى فنظر له البواب باحتقار، وقال أهه فوق عندك، واكتشف والدى أن المنشاوى مجرد فراش فى مكتب موسيقار الأجيال، واستقبله وقال له حدودى المطبخ ده أوعى تتحرك منه».
وتابع الابن: «خلال هذه الفترة شاهد والدى الكثير من النجوم الذين يترددون على المكتب، ومنهم شادية ونجاة وفاتن حمامة مع والدها، وفى إحدى المرات قال والدى للمنشاوى نفسى أتفرج على مكتب الأستاذ، فسمح له، ودخل أبى وتحسس المكتب والكرسى وتمثال بيتهوفن ووجد ورقة فى سلة المهملات مكتوب فيها أغنية، واستأذن المنشاوى أن يأخذها، فقال له ما دام الأستاذ رماها يبقى مش عاوزها»، كانت هذه الأغنية مفتاح محمد رشدى لدخول الإذاعة وكانت اسمها «سامع وساكت ليه»، ولحنها لنفسه ودخل بها امتحان الإذاعة واجتاز الاختبارات بهذه الأغنية.
وقال الابن «عندما علم مؤلف الأغنية اشتكى والدى واستدعى الإذاعى على فايق زغلول والدى، وطلب منه أن يتفاهم مع المؤلف، وبالفعل قابله، فسأله المؤلف معاك 2 جنيه، فقال أبى لا، فقال هل معك ساعة، ولم يكن أبى يمتلك ساعة، فطلب منه المؤلف أن يكتب له وصل أمانة بـ2 جنيه».
وكشف الابن أن والده تقدم لامتحان الإذاعة هو والعندليب ولكن نجح رشدى ورسب حليم فى أول مرة، وعن ذلك قال طارق محمد رشدى، «حليم لم يهتم برسوبه ولكنه كان مهتما أن يأخد الأسطوانة علشان يعرف لماذا رسب».
يشير الابن إلى أن والده تعرف على العندليب فى القطار الذى جاء به إلى القاهرة، وكان حليم يركب القطار من الغربية وسأل رشدى الذى كان يمسك بالعود هل أنت عازف؟ فقال له «إنه مطرب وتعارفا فى هذه الرحلة وبعدها التحق رشدى وحليم بمعهد الموسيقى، ولكن رشدى لم يكمل دراسته بالمعهد».
وعن ذلك قال الابن: «للأسف لم يكمل أبى دراسة بالمعهد لكنه تعلم مخارج الألفاظ والموسيقى وكان يحتاج أن يغنى ليعيش فى القاهرة وينفق على نفسه لأن جدى رجل فقير ولا يستطيع أن يرسل له نفقات دراسته وإقامته».
سعد عبدالوهاب ومأذون البلد
يتحدث الابن عن المفارقة فى اختيار اسم والده: «الوالد اسمه فى البطاقة محمد محمد عبدالرحمن الراجحى، وجدتى كان نفسها تسميه رشدى وبالفعل اشتهر فى بلده باسم رشدى محمد، ولكن عندما بدأ يغنى فى الإذاعة فاجأه الأستاذ سعد عبدالوهاب وقدمه للجمهور وقال كنتم مع الصوت الجديد محمد رشدى، فخرج أبى يجرى بعد انتهائه من الغناء ليقول له «يا أستاذ سعد أنت عملت فيا كدة ليه؟ أقول لأهل بلدى إيه، كدة مش هيعرفونى، أنا اسمى رشدى محمد، فقال له سعد عبدالوهاب: كل اللى فارق معاك أهل بلدك دسوق وأنت مصر كلها سمعتك، وبعدين أنت اسمك مشقلب، فى محمد عبدالمطلب ومحمد فوزى ومحمد عبدالوهاب، يبقى أنت اسمك محمد رشدى، ومن هنا جاء اسمه الذى اشتهر به».
واستكمل الابن تفاصيل مسيرة والده: «ظل والدى يغنى عاطفى ومحدش يعرفه حتى غنى قولوا لمأذون البلد وبدأ الناس يعرفوه بهذه الأغنية».
يشير طارق محمد رشدى إلى أن والده كان متأثرًا فى بداياته بأداء محمد عبدالمطلب: «الأستاذ شجاعى قال لوالدى: يا ابنى أنا هنا بقال، أبيع أصناف مختلفة مش متشابهة، ولو مطلعتش عبدالمطلب اللى جواك هطردك ومش هدخلك الإذاعة أنا عاوز يكون لك شكل ولون خاص، وهى العبارة التى لم ينسها والدى».
ويحكى الابن عن ارتباط أغنية قولوا لمأذون البلد بثورة يوليو: «أبويا كان بياخد كل شهر 8 جنيهات لما بيسجل مختارات الإذاعة، وفى يوم رايح يسجل لقى دبابات وجنود، وقالوا له ارجع يا ابنى احنا فى ثورة، فأصر يدخل علشان يغنى وياخد الأجر، وهنا قابله الرئيس السادات وعرف أنه مطرب وجاء ليسجل أغانيه حتى يحصل على أجره، فسأله السادات هتغنى إيه؟، فقال والدى: عندى أغنية يا مليك البلاد، فرد السادات احنا فى ثورة يا ابنى والملك مشى، عندك إيه تانى؟، فأجاب أبى عندى أغنية قولوا لمأذون البلد، فسمح له السادات بالغناء، وقال اطلع غنى احنا فى فرح وثورة، فأذيعت قولوا لمأذون البلد مع بيانات الثورة».
يتحدث الابن عن ارتباط والده بالثورة والتوجه الجديد دون أن يدرى ودون تخطيط منه ليكون مطرب العمال والفلاحين: «بعد أغنية قولوا لمأذون البلد أصبح والدى مطرب الأغنية الواحدة، ولكن مع التوجه الثورى والقوانين الاشتراكية كان هناك توجه بتغيير نوع الغناء ليتواكب مع هذا التوجه، ويعبر عن العمال والفلاحين، وأرادت الإذاعة تقديم ملحمة أدهم الشرقاوى، وعرضت على حسن الشجاعى أسماء كل المطربين فى هذا الوقت ولكنه اختار اسم محمد رشدى ووقتها كان والدى يعانى من إصابات كثيرة بعد حادث خطير تعرض له ونجا فيه من الموت بأعجوبة».
حادث فى بداية طريق أدهم الشرقاوى
يحكى ابن محمد رشدى عن تفاصيل الحادث الذى تعرض له والده فى بداية حياته الفنية: «والدى كان مسافرا السويس فى حفلة للمجهود الحربى مع عدد من الفنانين، وفى طريق العودة كان قاعدا بجوار الراقصة نادية فهمى، وكان الطريق اتجاهين، وفجأة طلبت منه نادية فهمى أن ينتقل ليجلس فى الناحية الأخرى وأن يترك لها كرسيه لتنام عليه، وبعد دقائق اصطدم الأتوبيس بسيارة أنابيب مسرعة جاءت من الاتجاه الآخر وفى الناحية التى جلست فيها الراقصة نادية فهمى لتلقى مصرعها على الفور، وطار أبى من الشباك، وأصيب إصابات خطيرة حيث كسرت ساقه وأصيب بجرح قطعى فى وجهه وحاجبه واحتاج إلى العديد من الجراحات لتركيب شرائح ومسامير، ووقتها قال مش هشتغل تانى لأن الحادث ترك له نسبة عجز فى ساقه وإصابة فى وجهه».
وتابع الابن «عندما سأل الشجاعى عن والدى ليغنى ملحمة أدهم الشرقاوى أخبروه بأنه مصاب فى حادث ويرقد فى البيت، فقال الشجاعى هو مصاب فى ساقه وليس فى حنجرته هاتوه، فاتصلوا بوالدى وقابل الشجاعى وكان على كرسى ويستعين بعكاز».
وتابع «الشجاعى أعطى والدى 84 موالا من ملحمة أدهم الشرقاوى وقال له ذاكرهم كويس، فاشترى أبى من سوق الكانتو كل الأسطوانات القديمة للمطربين الشعبيين الذين غنوا الملحمة، واستعان بفرق الفن الشعبى والأرغول، ووضع بين المقاطع جملا موسيقية من أغانى أم كلثوم، وعندما سمعه الشجاعى قال له ستكون علامة كبيرة فى الغناء الشعبى بمصر والعالم العربى، وحققت ملحمة أدهم نجاحا وشهرة كبيرين لوالدى».
وهيبة وعدوية والأبنودى وبليغ
يحكى ابن محمد رشدى عن لقاء والده برفيق عمره الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى: «خلال هذه الفترة جاء الأبنودى من قنا وبحث عن المطرب الذى غنى أدهم الشرقاوى، وعرف أنه مصاب فى حادث وقابله وجلس معه على مقهى بالتحرير وعرض عليه كلمات أغنية وهيبة وأبى تعجب من هذه الكلمات التى تمثل لونًا جديدًا فى الغناء الشعبى، وذهبا للموسيقار عبدالعظيم عبدالحق فلحنها وغناها أبى لتحدث ضجة واسعة وتغييرًا كبيرًا فى شكل الغناء الشعبى، وبعدها كتب عمى عبدالرحمن أغنية عدوية».
يضحك الابن ويقول: «كانت هناك خادمة عند الأستاذ عبدالعظيم اسمها عدوية، وعمى عبدالرحمن هزر معاها، وقال هعمل أغنية باسمك تغنيها مصر كلها، وبالفعل كتب كلمات أغنية عدوية ليلحنها عبدالعظيم عبدالحق الذى ظلت لديه الكلمات عدة أيام وبعدها أرسل لأبى وعمى الأبنودى وأعاد لهما الكلمات، مؤكدًا أنه لن يلحنها، وقال: «البت وحشة يا عبدالرحمن كل ما تدخل عليا وأنا بلحن الأغنية الألحان تطير من دماغى».
وأكد طارق محمد رشدى أن الموسيقار بليغ حمدى كان سمع كلمات عدوية، وتمنى أن يلحنها، وبعد أن رفضها عبدالعظيم عبدالحق، استعان والده والأبنودى ببليغ لتلحينها ليبدأ تعاون الثلاثى بليغ ورشدى والأبنودى الذى أنتج عددا كبيرا من الروائع الغنائية غيرت شكل الأغنية فى العالم العربى.
وحقق رشدى نجاحا مدويا، وغنى كبار المطربين والمطربات من كلمات الأبنودى وألحان بليغ ليواكبوا هذا التغيير.
فى الجزء الثانى من الحوار طارق محمد رشدى يكشف أسرار مقالب العندليب وعلاقته بوالده ولماذا تهرب موسيقار الأجيال من التلحين لرشدى وتفاصيل الأيام الأخيرة فى حياته وعلاقته بالأبنودى وبليغ حمدى