"في قلبي حسرة لأن كل صناع الأفلام الأردنيين المقيمين في الأردن أو المنطقة وقدموا فيلمًا روائيًا طويلًا أول.. لم ينجح أي منهم حتى الآن في تقديم فيلم روائي ثان رغم مرور عدة سنوات.. لأسباب يتعلق أغلبها بالتمويل وظروف الحياة.. ولكنني في نفس الوقت سعيد بأن هناك أسماء محلية جديدة تسعى لصنع أفلامها الروائية الطويلة الأولى هذا العام.. وأتمنى أن نشهد حراكًا سينمائيًا محليًا مميزًا.."
هذا ما كتبه المخرج والكاتب الأردني رفقي عساف على حسابه الشخصي عبر فيس بوك بتاريخ 8 أكتوبر 2019، أي قبل رحيله المباغت بنحو شهرين تقريبًا (3 ديسمبر 2019، وحسرته التي أشار إليها هي وليدة التجارب الناقصة، أو بالأدق التجارب الواحدة والفيلم الوحيد، الفيلم الأول الذي لم يتبعه ثاني أو لاحق في المشهد السينمائي الروائي الأردني، لكن مثل رفقي لا تهزمه اللحظة اليائسة، فكان يرفع لواء الأمل بحراك سينمائي يغير الحظ العاثر.
تذكرت كلماته هذه بمناسبة الدورة الثانية المنعقدة حاليًا لمهرجان عمّان السينمائي الدولي/أوّل فيلم (من 23 أغسطس الجاري إلى نهايته) بمشاركة 51 فيلمًا من 26 دولة عربية وأجنبية، فالمهرجان يستهدف التجارب الصاعدة ويقدم الأفلام الأولى لمخرجيها ويدعمها، الفكرة طموحة ولا تتوقف عند حدود الفيلم الروائي الطويل فقط، بل تشمل أيضًا أفلامًا قصيرة ووثائقية، ومع ذلك ففرصة مؤازرة الفيلم الروائي العربي الطويل كبيرة، نأمل أن تمتد إلى الفيلم الأردني.
ثمة غياب شبه تام للفيلم الروائي الطويل في السينما الأردنية، وهو ما صادفته حين قمت مؤخرًا بإعداد استفتاء مهرجان أسوان لأفضل مائة فيلم للمرأة العربية، فعلى الرغم من قائمة احتوت على أسماء مخرجات عدة، لكن أفلامهن توزعت ما بين الوثائقي والروائية القصيرة وغابت الطويلة، فالأفلام الروائية الطويلة في الأردن شحيحة بشكل عام، فما بال الأفلام النوعية كأفلام المرأة مثلًا، وهذا أمر ملحوظ منذ بداية السينما الأردنية، لنكتشف أن فيلم "صراع في جرش" (1958) إخراج واصف الشيخ ياسين، هو أول محاولة أردنية لإنتاج فيلم سينمائي طويل، يحكي عن شاب وفتاة يتعارفان، يقرران السفر إلى القدس، ويدخلان بين المقدس، ثم يتجولان في المدينة، ويصلان إلى البحر الميت، ومن هناك يتقابلان مع بعض أصدقاء السوء في اﻷرجاء، تلاه الفيلم الصامت "وطني حبيبي" (1962) إخراج عبد الله كعوش يدور حول قصة حب رومانسية على خلفية من الصراع العربي/ الاسرائيلي، إذ يترك بطل الفيلم حبيبته لكي يؤدي واجبه الدفاع عن حدود الوطن، ثم قدم المخرج جلال طعمة فيلمه "الأفعى" (1972)، أما "حكاية شرقية" (1991) فقد كتبه السوري هاني الراهب وأخرجه السوري أيضًا نجدت أنزور، ويقال أنه تشجيعًا لصناعة السينما الأردنية، لم يتقاض العاملين في الفيلم أجرهم عنه.
ما نلحظه ثانية هو أن كل فيلم يعد التجربة السينمائية الواحدة لمخرجه، باستثناء التجربة المشتركة مع السوريين، هذا الملمح امتد إلى المشهد السينمائي المعاصر على الرغم من انتعاش الصناعة، حسب رصد الناقد الأردني ناجح حسن في كتابه "عتبات البهجة"، مشيرًا إلى التحول الحاصل على نحو غير مسبوق، في ظل وجود الهيئة الملكية الأردنية للأفلام وتعدد الجمعيات والمؤسسات السينمائية، وتبدى ذلك كما يقول "حسن" في مشاركة المخرجين الأردنيين في العديد من المهرجانات العربية والدولية.
مع ذلك يظل سؤال الفيلم الروائي الطويل مطروحًا، فإذا كان المخرج أمين مطالقة استعاد نوعًا ما حضور الروائي الطويل من خلال فيلم "كابتن أبو رائد" (2008)، وكذلك فعل محيي الدين قندور بفيلمه "الشراكسة" (2010)، ومحمد الحشكي بفيلمه "مدن ترانزيت" (2010)، ويحيي العبدالله بفيلم "الجمعة الأخيرة" (2011)، وفادي الحداد بفيلم"ولما ضحكت موناليزا" (2012)، وناجي أبو نوار في العام 2014 بفيلم "ذيب" (حصل على جائزة أفضل مخرج ضمن قسم آفاق جديدة في مهرجان فينيسيا السينمائي، فاز بجائزة لجنة التحكيم لأفضل تصوير من مهرجان القاهرة السينمائي، ترشح لجائزة البافتا لأفضل فيلم أجنبي، كما ترشح لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي)، فإن الغالبية في الإنتاج موزعة ما بين الأفلام القصيرة والوثائقية، وبين الإنتاج الدرامي التليفزيوني.
ما يعني أن الروائي الطويل في السينما الأردنية مازال هو الاستثناء، أو ربما يمر بـ "المنعطف"، حسب عنوان فيلم رفقي عساف الذي أنجزه في العام 2015، ورفقي الغائب عن مهرجان بلده، الحاضر بقائمة أعمال ضمت أربعة أفلام قصيرة، منها فيلم "المشهد" كتابة وإخراج مشترك مع حازم بيطار، كما كتب عدد من المسلسلات التليفزيونية، أما "المنعطف" فكان فيلمه الطويل، كتابة وإخراجًا، والحاصل على جوائز عدة، إنه في حد ذاته شهادة بصرية عن معان إنسانية تحمل صبغة ذاتية، تطرحها حكاية هذا الرجل الأردني من أصول فلسطينية، يخشى التعامل الاجتماعي بأشكاله المختلفة، فيقرر أن يعيش حياته بعيدًا عن صخب المجتمع، فيقوم بتصميم شاحنة صغيرة يعيش فيها، ثم يصادف ثلاثة أشخاص مختلفين يؤثرون على حياته التي أغلقها على نفسه، يقدم الفيلم عالم هذا الرجل بشاعرية تتقاطع مع الواقع، ما يجعل رحلته أشبه بمغامرة تحرره من قيوده.
الفيلم جزء من التجربة الأردنية المعاصرة في السينما، التي تسعى لتتشييد صناعة سينمائية حقيقية وأكبر كما نتمنى، وهذا يحتاج بالتأكيد إلى جهود كبيرة ودعم يسهم في تعدد الأفلام والخروج من دائرة الفيلم الواحد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة