عندما أطلقت مصر مبادرة "العودة للجذور"، كانت ترتبط في الأساس بتقوية العلاقة مع الحلفاء الجدد (اليونان وقبرص)، عبر إحياء الروابط القديمة، في ظل بقاء الألاف من أبناء تلك الجاليات في المدن المصرية لعقود طويلة من الزمن، ليعيشوا على أراضيها، ويأكلون من خيراتها، ويعملون بين أبنائها، ليتجاوز التحالف الجديد، الإطار السياسى والاقتصادي الجامد، إلى ما هو أبعد من ذلك عبر إضفاء صبغة إنسانية، من "لحم ودم" عليه، من خلال التواصل مع اليونانيين والقبارصة، من ذوى الأصول المصرية، ودعوتهم لزيارة تلك المناطق التي عاشوا فيها خلال فترات الصبى والطفولة، وحتى تتسنى الفرصة لهم لتعريف أبنائهم بتلك الأرض الطيبة التي احتضنتهم ولم تبخل عليهم يوما.
المبادرة المصرية، حملت في طياتها، بعدا جديدا في العلاقات الدولية، يقوم على إطار "إنسانى" بحت، فأصبح جزء لا يتجزأ من تحركاتها السياسية، عبر خلق علاقة شاملة، لا تقتصر على الشكل الرسمي المعتاد، وإنما امتدت إلى الشعوب، والتي تحمل حنينا لماض لم يخلو من العلاقة الطيبة بينهم، ليصبح إحياء تلك العلاقة جزء مهم في العلاقة السياسية بين الدول، مما يساهم في تقوية المواقف التي تتبناها الدول الثلاثة، في حماية حقوقهم المشتركة، والدفاع عن أي انتهاكات قد تلحق بأحدهم، في المستقبل، عبر خلق المزيد من المصالح المشتركة، التي تؤدى في النهاية إلى تحقيق المصلحة العليا لهم، سواء سياسيا أو اقتصاديا وحتى على المستوى الأمني، والذى يتجسد في الحماية من مختلف المخاطر المحدقة بهم، وعلى رأسها خطر الإرهاب.
مفهوم "العودة للجذور" لم يقتصر في حقيقة الأمر، على التحالف مع اليونان وقبرص، ولكنه امتد إلى تحالف أخر مع العراق والأردن، عبر التحرك الحثيث لإحياء القومية العربية في بغداد، بعد سنوات من الاستقطاب الإقليمى، وما يحمله التحرك من أبعاد إنسانية، تهدف في الأساس إلى حماية الدولة العربية من تداعيات فراغ أمنى محتمل، إثر الانسحاب الأمريكي المرتقب، وما قد يؤدى إليه من عودة تنظيم داعش الإرهابى إلى الواجهة من جديد، كما ظهر كذلك في المبادرة المصرية تجاه قطاع غزة، بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، عبر إعادة إعمار القطاع، في خطوة إنسانية جديدة، ارتبطت بالشكل الذى باتت تتبناه "الجمهورية الجديدة"، في بناء علاقاتها الدولية.
وهنا أصبح الإطار "الإنسانى" بمثابة أولوية سياسية، ليصبح مدخلا جديدة، لإحياء المفهوم الأصلى لـ"حقوق الإنسان"، والقائم على حقه في الحياة والنماء والرفاهية، والمساواة، والحرية، بعيدا عن الاستخدامات المستحدثة للمصطلح، والتي باتت مسيسة تماما، وتحمل أهدافا بعينها، تقوم في الأساس على تحقيق أهداف قوى بعينها، مهما كانت الوسيلة، على غرار المشهد الذى ساد منطقة الشرق الأوسط، إبان ما يسمى "الربيع العربى"، والذى أصبحت خلال الفوضى والحروب الأهلية بمثابة السمة السائدة للمشهد السياسى في المنطقة، تحت شعارات إنسانية، تجاهلت الكثير من الحقائق على أرض الواقع، وعلى رأسها أن تحقيق ما يتطلع إليه الشعوب لا يمكن أن يتحقق في ظل تداعيات كارثية لما أسفرت عنه تلك الحقبة، وهو ما أدركه ملايين البشر في تلك المنطقة، وإن كان إدراكهم لتلك الحقيقة جاء متأخرا للغاية.
ولعل الرؤية المصرية لما يمكننا تسميته بـ"الإنسانية السياسية"، لم تختلف كثيرا عندما أطلقت استراتيجيتها الوطنية لحقوق الإنسان، والتي اعتمدت نفس النهج القائم على فكرة "العودة للجذور"، عبر إحياء أصل المفهوم الحقوقى، والذى ارتبط في الحقيقة بالمبادئ الأخلاقية التي تحكم علاقات البشر، عبر احترام حرياتهم، سواء فيما يتعلق بالسياسة أو العقيدة، وحقوقهم في المأكل والمشرب والملبس، بالإضافة إلى احترام كافة البشر، وضمان حقوقهم، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين، مع تطهيره من محاولات "التسييس" التي ساهمت في تشويهه لعقود طويلة من الزمن.
يبدو أن ثمة علاقة قوية صارت تربط بين كافة المبادرات التي تتبناها الدولة المصرية في السنوات الأخيرة، فأصبحت مرتبطة، في نسيج واحد، يخلق بينها قدر من الانسجام، وهو ما يتجلى في البعد الإنسانى الذى ارتبط ببناء شبكة من العلاقات والتحالفات الدولية، والتي باتت لا تخلو من هذا البعد، لتجد انسجاما في النهاية مع الرؤية المصرية في الداخل للمفاهيم الحقوقية، والقائمة في الأساس على احترام الإنسان، ولكن بعيدا عن أساليب التسييس، والتي ساهمت في تقطيع أوصال الدول في منطقتنا، خلال السنوات الماضية، ووضعت معظمها على حافة الحروب الأهلية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة