رجل دولة من طراز خاص، حمل صفتي البطل والقائد، تحلى بالوطنية والانتماء، حمى مصر في فترة عصيبة حتى لقب برجل الأزمات والمحن، دافع عن ترابها بطلا وتحمل ما لا تتحمله الجبال قائدا، عاش محبا لشعبها، وبقي على العهد إلى أن وافته المنية على أرضها، لتسدل وفاته الستار على مسيرة التفاني والعطاء التي قدمها المشير محمد حسين طنطاوي للوطن، فقد لعب في أثناء أحداث 25 يناير 2011 هذه الفترة من عمر الوطن أروع أدواره الوطنية، عندما أدار أمور البلاد بهدوء وحكمة واقتدار وشجاعة، ما منع البلاد من الانزلاق والوقوع في ما هدف إليه الأعداء من تدمير الوطن وجيشه الوطني، ونشر الفوضى والدمار والخراب في طول البلاد وعرضها.
لذا نعاه الرئيس عبد الفتاح السيسي بعبارات يملؤها الحزن والأسى، إذ قال في تدوينه له عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك): (فقدت اليوم أبا ومعلما وإنسانا غيورا على وطنه، كثيرا ما تعلمت منه القدوة والتفاني في خدمة الوطن)، وتابع: (إنه المشير محمد حسين طنطاوي الذي تصدى لأخطر ما واجهته مصر من صعاب في تاريخها المعاصر)، وأضاف: (عرفت المشير طنطاوي محبا ومخلصا لمصر وشعبها، وإذ أتقدم لشعب مصر العظيم بخالص العزاء، فإنني أدعو الله أن يلهم أسرة المشير طنطاوي الصبر والسلوان)، وأتم الرئيس المصري تدوينته ببعض آيات القرآن الكريم: (بسم الله الرحمن الرحيم.. “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُواْ تبديلًا).
وربما كان هذا قدره المحتوم ففى حياة الشعوب رجال تختارهم الأقدار فى وقت المحن، وفى لحظات فارقة من عمر الزمن يحملون على عاتقهم المسئوليات الجسام، رجل من هؤلاء الرجال هو المشير محمد حسين طنطاوى الذى تمتد مسيرته فى خدمة مصر لأكثر من نصف قرن من العطاء والتضحية والفداء، بداية من انخراطه كضابط بالمشاة وتدرج فى جميع المناصب حتى صار وزيرا للدفاع ثم رئيسا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وإدارة شئون البلاد عقب أحداث يناير، ولهذا السبب وغيره كان بطل الحلقة 29 من مسلسل (هجمة مرتدة) الذي عرض في رمضان الماضي، وبدأت بأحداث 25 يناير ونزول الجيش للشوراع وحتى لحظة تنحي الريئس الراحل حسني مبارك، فقد كان أمل الموساد أن تعم الفوضى في البلاد من خلال حرب أهلية تم التخطيط لها بعناية فائقة من قبل.
لقد تذكرت هذه الحلقة وأنا أشاهد مرسم تشيع جثمان الراحل فقد كانت بمثابة رد اعتبار لهذا الرجل المقاتل الشرس الذي كان يتمتع بحنو بالغ على الشعب المصري في أثناء تلك الأزمة الكبرى، ولعلها كانت حلقة فارقة في مسلسل (هجمة مرتدة)، حيث كانت غاية في السخونة محملة بقدر هائل من التوتر في تناولها الكاشف لذلك الصراع الدرامي على أرض مصر في محاولة حثيثة لإسقاطها، حيث نشطت أجهزة المخابرات العالمية وبالتنسيق مع عملاء الداخل مملثين من الإخوان وأنصارهم من الخارج، وحاولت تلك الجهات تطبيق سيناريو الفوضى وإغراق مصر في براثن حرب أهلية تؤدي إلى خرابها وتقسيمها إلى ثلاث دويلات بحسب المؤامرة التي دبرت بليل، وذلك من خلال هبوط الجاسوس الإسرائيلي (ريكاردو / قيس شيخ نجيب) على أرض القاهرة في بداية أحداث 25 يناير وبالتنسيق مع (إيزاك / باسم قهار) الموجود في مكتب الموساد في أوروبا.
وفي ظل تزايد حدة التوتر والغصب الشعبي تمكن (ريكاردو) من التسلل داخل صفوف المتظاهرين الذين كان يلتقيهم على (قهوة البورصة) كما ظهر في الحلقة، ولكن تدخل المشير طنطاوي ونزوله إلى الميدان أفسد كل مخططات الموساد التي تريد إفشال الدولة المصرية، ومن هنا يظهر (إيزاك) في كادر مواز للأحداث الساخنة في ميدان التحرير، وعندما يشاهد تدخل الجيش يبدى دهشته وغضبه من إفشال السيناريو، قائلا لزميله (داوود) هذا الرجل (المشير طنطاوي) ليس سهلا، لقد هزمنا مرة من قبل في معركة (المزرعة الصينية) في حرب أكتوبر 1973 عندما أخفي جنوده عن أعين قادة جيشنا، ثم دار وضرب ضربته الموجهة التي أهلكت جيشنا، حيث كان قائدا للكتيبة 16 مشاة، والتى حققت بطولات كبيرة خلال ملحمة عبور قناة السويس وتحرير سيناء.
والتاريخ يذكرنا لقد دخل المشير طنطاوى فى مواجهة مباشرة مع القوات الإسرائيلية وتحديدا مع إريل شارون أثناء حرب أكتوبر73، وتحديدا يوم 12 أكتوبر حيث تم الدفع بإحدى الوحدات التى كان يقودها طنطاوى لتأمين الجانب الأيمن للفرقة لمسافة 3 كيلومترات، وتمكنت الوحدة بقيادة (طنطاوى) من الاستيلاء على نقطة حصينة على الطرف الشمالى الشرقى من البحيرات المرة، وكان جنود هذه النقطة من الإسرائيليين قد اضطروا للهرب منها تحت جنح الظلام، وتم إحباط عملية (الغزالة المطورة) الإسرائيلية، حيث تصدت بالمقاومة العنيفة لمجموعة (شارون) ضمن فرقتى مشاة ومدرعات مصريتين فى الضفة الشرقية، حدث هذا فى منطقة (مزرعة الجلاء) المعروفة باسم (المزرعة الصينية) حيث كبدت الكتيبة بقيادة (العميد طنطاوى) الإسرائيليين خسائر فادحة.
إنها الخديعة إذن - يقول إيزاك في الحقلىة 29 من مسلسل هجمة مرتدة - ولايمكن أن يهزمنا مرتين، ومن ثم أصدر تعليماته لريكاردو بتنفيذ الخطة (ب) من السيناريو الأسود، وحاول الجاسوس الإسرائيلي - الذي أحكمت المخابرات المصرية قبضتها عليه - أن يقوم بإدخال سفن محملة بالذخائر والأسلحة إلى غزة لتمر عبر الأنفاق كي يتم تنفيذ عمليات تفجير لمنشأت داخل العاصمة المصرية، لكن (عين الصقر) من خلال (سيف العربي/ أحمد عز) كانت تراقب حركة ريكادرو وعملاء الداخل من الإخوان وحركة حماس على الحدود الشمالة الشرقية في سيناء، وفي الوقت المناسب تم السيطرة على الموقف ومنعت المخابرات المصرية الكارثة التي كان يمكن أن تؤدي بالبلاد في تلك اللحظات الحاسمة من عمر وطن اجتمعت عليه كل قوى الشر في الخارج والداخل خاصة أن تم تسرب أكثر من سبعين جاسوسا وقتها لميدان التحرير من الصحفيين والحقوقين وسفراء ومنتسبي المنظمات الدولية في القاهرة.
وهنا يشهد التاريخ أنه فور تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير طنطاوى مسئولية السلطة فى البلاد، استطاع فى وقت قصير الحفاظ على هيبة ومكانة القوات المسلحة المصرية فى العالم، وكان الضامن الأمين للتطور الديمقراطى فى مصر، وألقى عليه أعباء عهد جديد على مصر والمنطقة، وقد نجح فى كل الاختبارات التى تعرض لها بنجاح منقطع النظير، ورغم كل محاولات الاستفزاز التى تعرض لها الرجل وتعرضت لها القوات المسلحة فى تلك الفترة الدقيقة إلا أنه كان بمثابة حائط الصد و(القميص الواقى) الذى يتلقى الضربات عن الشعب، وظل حتى قيام الشعب بانتخاب رئيس آخر وتسلم منصبه فى 1 يوليو 2012 استكمالا لخارطة الطريق، ثم بعد ذلك منح قلادة النيل وعين مستشارا لرئيس الجمهورية.
الحلقة كانت مكدسة بالأحداث العصيبة والحقائق والمعلومات حول وطنية (طنطاوي)، حيث رصدت وقائع ما حدث في ميدان التحرير ومنطقة وسط البلاد، حيث كانت تدار المؤامرات من جانب (ريكاردو) وأعوانه من مركز الجبرتي، وأيمن نور في حزبه المشبوه، حيث انخرط الجاسوس (مايكل) وسط مجموعات الشباب الذين حكمت السيطرة عليهم (دينا أبو زيد) وعلى رأسهم (أحمد حرارة) الذي انجرف رغما عنه في صفوف المتظاهرين، وعلى أثر فقده لعينه واكتشافه للمؤامرة التي تدار من خلف الستار بأصابع والإخوان حاول الخروج الآمن من اللعبة القذرة، لكنه كان قد تورط مثله مثل أبرياء كثر أكل عليهم خونة الأوطان وشربوا حتى استنفدوا كل طاقتهم التي راحت سدى بفضل بطولة الجيش بقيادة (المشير طنطاوي)، وبيقظة تامة من جانب المخابرات العامة المصرية.
وقد بدا واضحا من خلال أحداث تلك الحلقة من المسلسل الذي عرى كثير من الحقائق المزيفة أنه كانت (عين الصقر) لاتنام في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ونجحت بالفعل في وقف السيناريو الأسود الذي حاول النيل من وحدة الشعب المصري وتكاتفه مع جيشه الباسل بقيادة المشير طنطاوي ضد قوى الشر العظمي، وظني أن توثيق مسلسل (هجمة مرتدة) لبطولته سيظل محفورا بحروف من نور في عقول المصريين وسترسخ في الذاكرة المصرية الحية من خلال أحداثه الساخنة عبر حلقاته الأخيرة التي رصدت محاولات القوى العظمي بالتنسيق مع عملاء الداخل والتسلل داخل صفوف المتظاهرين وتحفيزيهم على القيام بعمليات تخريبة من شأنها أن تسقط الدولة المصرية في المستنقع الذي هدفت إليه حروب الجيل الرابع.
ويظل مشهودا أن حنكة طنطاوي ورفاقه من أعضاء المجلس العسكري دحضت كل نظريات (برنارد لويس)، المؤرخ اليهودي البريطاني الأمريكي صاحب أخطر مشروع في هذا القرن لتفتيت العالم العربي والإسلامي من باكستان إلى المغرب والذي وضع مخططا لتقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات وحظي بتكريم إسرائيل وتركيا وأمريكا، ووضع برنارد لويس مشروعه بتفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية، وتفتت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية، كما أعد خريطة تشير إلى تقسيم مصر إلى ثلاث دول هى: مسيحية في الصحراء الغربية وعاصمتها الإسكندرية، ونوبية في الجنوب، وإسلامية في الدلتا، وسيناء والصحراء الشرقية التي سيتم ضمها إلى إسرائيل الكبرى.
ولابد لي من توجيه تعظيم سلام واحترام للمشير طنطاوى الذي يظل محل تقدير من جميع قيادات القوات المسلحة وعلى رأسها الرئيس السيسى القائد الأعلى للقوات المسلحة والذى قال عنه بعد حمايته مصر فى أصعب فتراتها: (المشير طنطاوى تحمل ما لا تتحمله الجبال)، فضلا عن أننا لاننسى أنه كانت له مواقفه المشهودة فى زمن حكم الرئيس الراحل مبارك، حيث كان مرتابًا فى حكومة رجال الأعمال طوال الوقت، وكان يقف بالمرصاد لمحاولات بيع البنوك والتفريط فى شركات القطاع العام الناجحة، كما كان يحذر من تردى الأوضاع، باختصار لأنه كان يعرف تماما أبعاد المؤامرة وخطورتها، وكان يقول دوما: (الوطن هو المستهدف) .. بالطبع يقصد أعداء الداخل والخارج على حد سواء.
فتحية تقدير واحترام لروحه الطاهرة، هذا الرجل الذي آمن بعقيدة الجيش المصري القائمة منذ فجر التاريج على أنه جيش دفاع وليس هجوم، وفي سبيل ترسيخ تلك العقيدة كان (طنطاوي) من أخلص ابناءها وأحد رموزها العسكرية الذي وهب حياته لخدمة وطنه لأكثر من نصف قرن، فقد كان بطلا من أبطال حرب أكتوبر المجيدة، ساهم خلالها في صناعة أعظم الأمجاد والبطولات التي سجلت بحروف من نور في التاريخ المصري ثم قائدا ورجل دولة تولى مسؤولية إدارة دفة البلاد في فترة غاية في الصعوبة تصدي خلالها بحكمة واقتدار للمخاطر المحدقة التي احاطت بمصر، ومع ذلك لم يكن (المشير طنطاوي) محبا للظهور كثيرا للحديث للرأي العام، إلا أنه وجه (رسائل حاسمة) للشعب المصري، آنذاك، حيث قال خلال زيارة إحدى المنشآت العسكرية يوم 11 نوفمبر 2011، في كلمة مصورة أذاعتها الشؤون المعنوية للقوات المسلحة فيما بعد: (المراد هى مصر .. ومصر هتستمر شعلة الوطنية، والقومية، والأمن والأمان في المنطقة كلها .. صدقت أيها الأنشودة الوطنية العظيمة فجازت عليك الرحمة وفاضت دموع المصرين على فراقك المر فإلى جنة الخلد بإذن الله تعالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة