على الرغم من الخلافات الكبيرة بين كوريا الجنوبية واليابان، والذى يحمل في طياته، بعدا تاريخيا، إثر احتلال طوكيو لشبه الجزيرة الكورية، بالإضافة إلى المستجدات التي طرأت على العلاقات بدءً من القضايا الخلافية المرتبطة بالتجارة، والنزاع حول السيادة على جزر إقليمية، انتهاءً بتصريحات مسيئة، من دبلوماسي ياباني بحق رئيس كوريا الجنوبية، مون جيه إن، إلا أن ثمة اتفاقا يلوح في الأفق، في المرحلة الراهنة، يدور في جوهره على الموقف الذى تتبناه الدولتان من كوريا الشمالية، والتي كانت أحد أسباب النزاع الذى اندلع بين البلدين في السنوات الأخيرة، في ظل تحفظ اليابان على التقارب الأمريكي مع بيونج يانج، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، بسبب تجاهل حقوقها فيما يتعلق بقضية المختطفين، بينما وضعت سيول ثقلها الدبلوماسي لدعمه.
الخلافات التي نشبت بين كوريا الجنوبية واليابان جاءت، في حقيقة الأمر، من رحم التحالف مع الولايات المتحدة، حيث تجددت الخلافات التاريخية، والتي تم تجاوزها لعقود طويلة من الزمن، في إطار ما يمكننا تسميته "صراع" دبلوماسي، لاسترضاء واشنطن، في إطار تحركات الأخيرة، لـ"إعادة غربلة" الحلفاء، استعدادا لتغيير خريطة التحالفات الدولية، لمواجهة التحديات الأخيرة، وهو ما تجلى، ليس فقط في آسيا، وإنما في العديد من مناطق العالم، أبرزها دول أوروبا الغربية، التي تغيرت "البوصلة" الأمريكية تجاهها، حيث باتت تتجه صراحة، نحو تفتيت الاتحاد الأوروبى، لصالح بريطانيا المتمردة على أوروبا الموحدة، ناهيك عن التوجه الصريح نحو أوروبا الشرقية.
إلا أن إرهاصات التوافق بين طوكيو وسيول ولدت فعليا، ليس من اختلاف المواقف تجاه كوريا الشمالية، على خلفية التصريحات الأخيرة لمسئولى البلدين، للتفاوض مع بيونج يانج، حيث أعرب رئيس وزراء اليابان يوشيهيدى سوجا في الأشهر الماضية عن استعداده للقاء الزعيم كيم جونج أون، بينما دعا الرئيس الكوري الجنوبى إلى استئناف المفاوضات مع النظام الذى طالما وصفته واشنطن وحلفائها بـ"المارق"، وإنما جاءت في حقيقتها من "رحم" التباعد الأمريكي عن الحلفاء، وهو ما يمثل جرس إنذار لكافة القوى الإقليمية في مختلف مناطق العالم، حول "مقامرة" الاعتماد على واشنطن.
ولعل الحاجة إلى التقارب بين كوريا الجنوبية واليابان، حول الموقف من بيونج يانج، يمثل بادرة مهمة للغاية، من حيث ضرورة تجاوز الخلافات الحالية، والتي تحمل بعدا تنافسيا، ليتحولا نحو التعاون، لمواجهة التحديات المشتركة، وأبرزها سياسة "التخلي عن الحلفاء" التي باتت تعتمدها واشنطن، منذ حقبة ترامب، وامتدت عمليا خلال عهد الرئيس الحالي جو بايدن، وذلك إذا ما أرادت القوى الآسيوية، الاحتفاظ بدورها إقليميا، أو على الأقل مزاحمة "التنين" الصينى، الذى لم يعد مكتفيا بالقيادة القارية لمحيطه الإقليمى، وإنما بات يسعى إلى دور أكبر، عبر المنافسة على قمة النظام العالمى، في إطار نظام دولى جديد، لن يعتمد على قوى مهيمنة واحدة، وإنما سيكون تعدد الأقطاب، هو بمثابة سمته الرئيسية.
التوافق بين كوريا الجنوبية واليابان، ربما أصبح ضرورة ملحة، في المرحلة الراهنة، خاصة مع دراسة الواقع الراهن، حيث يمكن توسيعه، بحيث لا يقتصر على القضية الكورية، وإنما قد يمتد إلى ملفات أخرى، وفى القلب منها الملف الأمني، والذى يمثل أحد مصادر القلق في ظل الاعتماد على الوجود العسكرى الأمريكي، في ضوء مؤشرات عدة تعكس رؤية واشنطن الجديدة التي تقوم على فكرة الانسحاب العسكرى، من العديد من المناطق، وعلى رأسها ما شهدته أفغانستان مؤخرا، وما سوف تشهده العراق، خلال أسابيع معدودة، ناهيك عن التحول الكبير في الموقف الذى تتبناه بلاد "العم سام" من حلف الناتو، والذى يمثل رمزا مهما للمعسكر الغربى، وأحد الثوابت التي طالما وضعتها أمريكا على رأس أجندتها الدولية.