ارتبطت التحركات التى تتبناها الدبلوماسية المصرية فى الآونة الأخيرة بـ"الثلاثيات"، سواء فى صورة قمم أو تحالفات، لتتجاوز النهج القائم على العلاقات الثنائية، والذى اعتمد، فى الكثير من الأحيان، خلال العقود السابقة، على العلاقة بين القاهرة وكل حليف من حلفائها على حدة، لتتراوح صعودا وهبوطا، بحسب العديد من الأبعاد، منها المصلحة اللحظية، والبعد التاريخى، مما ساهم بقدر كبير إهمال العديد من الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، والتى باتت تلعب دورا دوليا مهما فى السنوات الماضية، وبالتالى فأصبحت تحمل أهمية بعيدة المدى، فى مختلف مناطق العمق الاستراتيجى، سواء فى الشرق الأوسط، أو إفريقيا، وحتى الدائرة المتوسطية.
ولعل الاهتمام المصرى بـ"الثلاثيات" فى علاقاتها الدولية، قد بدأ مع انطلاق حقبة الرئيس عبد الفتاح السيسى، والذى حرص، بمجرد توليه المسئولية، على إطلاق أول تحالف ثلاثى، مع كلا من اليونان وقبرص، ليكون بمثابة نقطة البدء فى نهج مصرى جديد ساهم فى تحقيق المصالح المشتركة، خاصة على المستوى الاقتصادى، من خلال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وما نجم عنها من مكاسب كبيرة، إثر تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، والذى تحول من مجرد تحالف ثلاثى، إلى هيئة مكونة من 8 دول كاملة، ناهيك عن أعضاء بصفة "مراقب"، فى حين أن الطريق مفتوح، أمام انضمام دول أخرى، وهو ما يساهم بربط مناطق جغرافية واسعة ببعضها، بالمصالح المشتركة، والتى يمكنها وأد أى خلافات، قد تتحول إلى صراعات فى المستقبل.
"الثلاثيات" لم تقتصر على الدائرة المتوسطية، وإنما امتدت إلى إفريقيا، عبر علاقات متعددة الأبعاد، مع السودان وجنوب السودان، والتقارب مع جيبوتى وتنزانيا، ودعم المشاريع الاقتصادية هنا وهناك، حتى يمكنها تحقيق طفرة، من شأنها تحسين حياة المواطنين، من جانب، واتخاذ خطوات جدية نحو مستقبل أفضل، ناهيك عن حماية المصالح المصرية، التى اقتصرت لعقود طويلة من الزمن فى محيطها الأفريقى على دول حوض النيل، والتى لم تنجو هى الأخرى من قدر كبير من الإهمال منذ منتصف التسعينات من القرن الماضى، لتصبح القارة بمجملها، محلا للاهتمام المصرى، سواء عبر مبادرات، لدعم دولها.
امتدت الثلاثيات المصرية إلى منطقة الشرق الأوسط، عبر تحالف هام، مع كلا من العراق والأردن، دشنه الرئيس السيسى، مع عاهل الأردن، الملك عبد الله الثانى، ورئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى فى بغداد، مستبقا الإعلان عن الانسحاب الأمريكى من بلاد الرافدين، لتقدم مصر غطاءً عربيا للعراق، فى ظل مخاوف كبيرة من احتمالات عودة الفوضى، والقلق الذى يهيمن على المنطقة جراء عودة محتملة لتنظيم داعش الإرهابى.
بينما كانت القمة الثلاثية الأخيرة، التى عقدت فى القاهرة، بحضور ملك الأردن، والرئيس الفلسطينى، بمثابة امتداد آخر لـ"الثلاثيات"، والتى أصبحت بمثابة نهج دبلوماسى مصرى خالص، من شأنه إضفاء الشرعية على الحقوق العربية، فى خاصة بعد الدور الكبير الذى لعبته مصر فى العديد من القضايا الإقليمية فى الآونة الأخيرة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التى تمثل أحد أهم الأولويات منذ بدايتها.
وهنا يمكننا القول إن التحرك المصرى الجديد لم يعد مرتبطا بالمعايير التقليدية، التى يحكمها التاريخ والجغرافيا، إنما بات يخضع لمستجدات دولية وإقليمية، أضفت أهمية كبيرة لمناطق ربما لم تكن تحظى بالاهتمام الدولى منذ عدة سنوات، ربما بسبب بعض الإهمال فى عهود سابقة، سعت نحو الارتباط المباشر بالمصالح اللحظية للدولة المصرية، دون النظر إلى المستقبل، ثم بعد ذلك حلت سنوات الفوضى خلال ما يسمى بـ"الربيع العربى"، والتى ساهمت إلى حد كبير إلى حالة من الانكفاء على الداخل، لاحتواء الأزمات المتتالية والتى ارتبطت بتلك الحقبة.
"الثلاثيات" الدبلوماسية فى مصر تمثل فى جوهرها إدراك حقيقى للحاجة إلى بناء تحالفات، قابلة للاتساع، من أجل تقوية، ليس فقط الصوت المصرى، وإنما أيضا لدعم الحقوق الشرعية، للدول فى دوائرها، سواء العربية أو المتوسطية أو الإفريقية، عبر تقديم غطاء شرعى لها، لا يقوم فى حقيقته على قيادة واحدة، وإنما عبر تحقيق قدر من الإجماع، مما يضفى المزيد من القوى لأصحاب الحقوق، فى مواجهة القوى التى تسعى للاستيلاء عليها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة