مرة وحيدة إلتقيت فيها بالفنانة الكبيرة ماجدة الصباحي، كانت منذ نحو 8 سنوات؛ حين رتب هذا اللقاء الصديق الكاتب الصحفي الراحل مجيب رشدي، ذهبت برفقته ومجموعة من الأصدقاء إلى بيتها في حي الدقي. إنتظرناها قليلًا في غرفة الاستقبال التي احتوت أثاثًا كلاسيكيًا عريقًا، ينبيء عن ذوق متشبث بالماضي، بفخامة تبدو أنها ولّت وتلاشت، لكنها شاعت في هذه اللحظة، بينما جلست أنا على طرف أريكتها الوثيرة، إذ أحاطني اللون الذهبي من كل صوب.
الذهبي إذن يعيد ترتيب الحاضر ويوشي بالألق والترف والهيبة، ويؤنس مخيلتي التي تزاحمت بصور الصبية المدللة، المراهقة، الأخت الكبرى، بائعة الجرائد، الصحفية، المناضلة، الفلاحة التي سلبتها النداهة فؤادها وعقلها.. دوامة الصور حملتني لأبعد من أيقونة النجمة المتعددة الأدوار حتى صارت "ستايل" في الأداء المترع بالدلع والعفاف.
عفاف هو اسمها الحقيقي قبل أن يصير سينمائيًا "ماجدة"، من العفة والنزاهة حسب معنى اسمها القديم إلى ذات المجد، النجمة ابنة الحسب والنسب والعائلة الكبيرة، المنتجة المغرمة بالصناعة لأخر مدى، كيف استطاعت المزاوجة بين الواقع والخيال؟.. صوتها المبحوح المميز قطع شرودي بكلمات الترحاب والحفاوة، لأجد نفسي أمام امرأة ثمانينية، أنيقة، تتهادى بخطوات متزنة، واثقة بسحرها وتطلعها للكمال دون أن يكسرها الزمن أو يمنعها عن إظهار ماكياجها المتقن، وشعرها المصفف بعناية، وحتى أكواب الشاي المذهبة التي نُقشت باسم عفاف هانم الصباحي.
حدثتنا ماجدة عن التجهيزات الأخيرة لمتحف كان من المفروض أنه سيحمل اسمها، داخل مجمع ماجدة للفنون الذي تمتلكه في مدينة 6 أكتوبر، ويجمع أرشيف السينما المصرية بداية من الفنان الكبير يوسف وهبي الذي لم تشاركه التمثيل، لكنها أنتجت له "الناس اللي تحت" (1960) إخراج كامل التلمساني، ثم استدرجتنا إلى عالمها من خلال الفرجة على صور زملائها من نجوم السينما المصرية: فاتن حمامة، شادية، هند رستم، سعاد حسني، نادية لطفي، لبنى عبد العزيز، يحيي شاهين، أحمد مظهر، شكري سرحان، رشدي أباظة، أحمد رمزي، ولما لمحتني أحدق في صور إيهاب نافع، إختصرت علي طريق الأسئلة وقالت: إنه أيضًا جزء من تاريخ السينما المصرية.. لم نتحدث عن زواجهما وطلاقهما، لكني أدركت فطنتها واكتراثها بكل التفاصيل، والأهم يقظتها الشديدة وهي تناقشنا في كل الأمور السالفة والمعاصرة، المتعلقة بالسينما والمجتمع الذي كان يموج بالتغيرات العاصفة في هذه اللحظة.
هذه المرأة التي جلسنا أمامها في الهزيع الأخير من العمر واستمعنا إليها بإصغاء لافت، لم تنخطف إلى السينما كفعل عابر في لحظة طيش، وإنما نجحت أن تكون إمتدادًا بشكل ما لصانعي السينما الكبار في مصر، فلو تفرسنا في مشوارها الطويل حيث مثلت في نحو 74 فيلمًا وأنتجت 13 فيلمًا وأخرجت فيلمًا واحدًا هو "من أحب" (1966) ، لوجدنا خصوصية إنسحبت رويدًا على حضورها كممثلة، هناك ظلال من شخصيتها الحقيقية تصبغ كل دور قامت به، بل وامتدت إلى الأفلام التي أنتجتها، فمن بين 13 فيلمًا أنتجتها يطالعنا ما يقرب من نصفها، ستة أفلام عن روايات أدبية، بل أنها كانت أول نجمة فتحت باب السينما لإحسان عبد القدوس، ولفتت الأنظار إلى أدبه حين قدمته في باكورة إنتاجها "أين عمري" (1956) إخراج أحمد ضياء الدين، تعبيرًا عن بداية مرحلة جديدة للفتاة المصرية في واقعها الاجتماعي والسياسي تستطيع فيها أن تقول لا وأن تسأل السؤال المشروع: أين أنا من الحياة؟.. وهو مثلًا ما عبر عنه الناقد الكبير كمال رمزي في كتابه "دراسات السينما المصرية" الصادر عن سلسلة آفاق السينما عام 2005، حين كتب:" فتحت ماجدة باب الاحتجاج على الشاشة في فيلم أين عمري.. فالفتاة هنا التي عاشت حياتها كلعبة في يد الأخرين تدرك، في لحظة تنوير أن عليها رفض نمط حياتها والبحث عن طريق تساهم به في صنع مصيرها..".
صرحت ماجدة ذات مرة أنها أرادت تمثيل أدوار تحبها، فقررت أن تنتج الروايات والقصص التي تستهويها، وبدأت بـ"أين عمري" الصادرة في العام 1954، الرواية التي قيل أن إحسان عبد القدوس استوحى أحداثها من أشخاص عاصرهم في حي العباسية، ما يعني أنه كتبها من واقعه؛ لكنه لم ينزلق في فخاخ هذا الواقع، بل صبغ روايته بالتمرد مواجهًا الكبت الاجتماعي والنفسي، متطلعًا إلى حياة جديدة، رحبة، فيها من السكينة ما يكفي "علية" بطلة الرواية كي تنسى ما عاشته من عنف وقسوة سواء من أم مهيمنة، لا تترك لها منفذ للتنفس والعيش ببساطة، أو زوج عجوز تصورته ملاذها للانعتاق؛ فإذ به فظًا، غليظ القلب، يحول حياتها إلى جحيم حقيقي فيه الكثير من العذاب النفسي والبدني، لتنضم إلى شقيقتيه السجينتين ببأسه وجهامته بين جدران البيت الكبير، الكئيب، تلك الجدران التي حجبتهما عن الناس وحرمتهما فرصة الزواج والعيش وفق قوانين الطبيعة السوية.
المرأة هنا في هذه الرواية هي ضعيفة، أسيرة قيود مجتمعية خشنة، لا تقوى على المواجهة والتغيير، وإن حاولت كما فعلت مربية علية (قامت بدورها الفنانة فردوس محمد)، حتى علية نفسها حين قررت تعلن التمرد بعد موت زوجها، تحولت إلى امرأة عابثة ولم ينقذها سوى الحب، مرفأ الأمان في واقعها العاصف.. ماجدة باختيارها لهذه الرواية كممثلة ومنتجة قطعت شوطَا كبيرَا من المغامرة، في تصوري أنه يعكس صورة فنانة لديها من النباهة والفطنة، ما جعلها تتيقن من اختياراتها النوعية.
لاحقًا تؤدي ماجدة بروح وطنية متأججة دور المجاهدة في "جميلة" (1958) إخراج يوسف شاهين، من تأليف يوسف السباعي، سيناريو وحوار نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني ووجيه نجيب، كتيبة من كبار الكتاب يساندونها في نقلتها النوعية خلال فيلم حصل الأديب يوسف السباعي على قصته من وزير الثقافة الجزائري توفيق المدني، بينما قدمت جبهة التحرير الجزائرية، وعدد من المناضلين الكثير من التفاصيل والمعلومات عن المناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد) ودورها في مقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر، ليقدمها الفيلم على خلفية نضال الشعب الجزائري عمومًا، هو ما أشارت إليه ماجدة في أحد لقاءاتها التليفزيونية، حين قالت أنها عندما ذهبت إلى الجزائر رأت هناك نسخًا كثيرة من جميلة بوحيرد، وأنها كانت رمزًا لكفاح بلدٍ بأسره.
من هذا المنطلق تجاسرت ماجدة المنتجة، وصنعت مسارًا جديدًا على دربها السينمائي بفيلم أقل ما يوصف به أنه كان رصاصة في معركة التحرير، أحدث جلبة أمام الرأي العام العالمي، إذ عُرفت القضية الجزائرية ومأساة "جميلة" التى كانت تنتظر تنفيذ حكم الإعدام، القصة مباشرة ولا إلتباس فيها، ما زاد من الصخب حول الفيلم، فكانت المظاهرات التي شهدتها دور العرض، وكذلك تصاعدت وتيرة الغضب عالميًا تجاه فرنسا، حتى أن فيلسوفًا مثل الفرنسي جان بول سارتر قال: "بسبب هذا الفيلم جُسد أمامى حجم الجرم الذى ارتكبناه فى حق الإنسانية، إن هذه الممثلة الصغيرة الكبيرة أسقطت منى الدموع وأنستنى جنسيتى".
إزاء كل هذا السخط تراجعت فرنسا عن إعدام جميلة.. لاشك أن الفيلم حقق بروباجندا سياسية كبرى، لكن هذا لا يعني تجاهل الجمالية الدرامية التي تتلخص في التبسيط المؤثّر والحيوي المستخدم في إعادة صوغ قصّة إنسانية امتزجت بالسياسي والثقافي والمجتمعي والنضالي، فيما قدمت ماجدة مثلًا حيًا أخر لا يمكن التغاضي عنه، للممثلة التي قصت شعرها وحاولت جاهدة أن تظهر بما يليق بطبيعة الشخصية، الممثلة هنا حملت قدرًا كبيرًا من الحب للشخصية التي تجسدها، وتجاوزت القلق المادي والإنتاجي الذي أحاط بها كمنتجة، وتسبب فيما بعد في إغلاق شركتها لمدة 10 سنوات، نتيجة للخسائر الجسيمة التي تعرضت لها، بل أنها واجهت شبح الإفلاس وأصرت على استكمال الفيلم الذي شكل ذاكرة جلية للحرب والمقاومة.
مثيرة هي رواية "السراب" لنجيب محفوظ بما تحمله من مغزى نفسي عميق، لكن المثير بنفس القدر تقريبًا كان اختيار ماجدة لهذه الرواية التي صدرت في العام 1948 لتحولها إلى فيلم سينمائي من إنتاجها في العام 1970، مصدر الإثارة هنا متعدد المستويات؛ فمن ناحية هي رواية غير ما اعتاده الجمهور من أدب نجيب محفوظ الشائع عن الحارة الشعبية، وإنما تتوغل في سراديب نفسية، تختبيء فيها مكنونات الشخصية المحورية؛ البطل ووجعه الداخلي، ضعفه وتخاذله، شططه وانحرافه السلوكي، لنراه شابًا منطويًا يعيش مع أمه بعد أن انفصلت عن والده، ويتعلق بها بشكل مبالغ فيه، مما يؤثر على مسار زواجه وعلاقته الجنسية وحياته إجمالًا، ومن ناحية أخرى فإنها تقدم ماجدة في شكل جديد، يضعها أمام جمهورها كممثلة لديها تعدد واضح في أنماط الأدوار أو أشكال الشخصيات وبواطنها.
لذا من الظلم التعامل معها من زاوية واحدة، تختصرها في أدوار "الدلوعة" وتنويعاتها، كما أن اختياراتها تدل على طريقتها في عملية الصناعة السينمائية وقدرتها على مواجهة تحديات المهنة.. صحيح أن الفيلم الذي أخرجه أنور الشناوي يصعب مقارنته بالرواية، وأنه فرّغ النص من مضمونه معتمداً التعامل السطحي مع الحدث والشخصيات، كالكثير من الأفلام التي تعاملت مع روايات نجيب محفوظ وتماست معها شكلياً، باستثناءات قليلة، لكن يبق شرف المحاولة وإصرار ماجدة على رفض التقوقع في نمط واحد.
أكاد أقول أن ماجدة بشجاعتها المتوغلة في الإنتاج عن عالم الأدب المتدفق، أرادت التأكيد على مخزون أحلامها وطموحاتها تجاه الصناعة وكذلك حول تكوين صورتها، بما يكشف بُعد نظرها وحيوية ثقافتها، وفي تقديري أن عودتها إلى إحسان عبد القدوس مرة ثانية وإنتاجها روايته أنف وثلاث عيون (1972) إخراج حسين كمال، إشارة متجددة على ذلك وإن كان هناك عدة ملاحظات على اختيار هذه الرواية التي صدرت في العام 1964، لتقدمها ماجدة في مرحلة صعبة لازال فيها المجتمع المصري موجوعاً بنكسة 1967، وهناك محاولات لرد الاعتبار واسترداد الكرامة بحرب الاستنزاف المشتعلة على الجبهة، بينما ظهر الفيلم ليطرح سؤاله عن الحب وهل هو علاقة روحية أم جسدية؟.. هنا نجد أنفسنا أمام فيلم يتسم بالاغتراب المجتمعي، فيلم مترف منعزل عن نبض الشارع، حسب توصيفات النقاد، لكنه يعد في إحصاء خطوات ماجدة الجريئة إنتاجًا وتمثيلًا.
مع حسين كمال مجددًا، تنحو صوب أديب في منطقة أخرى مختلفة تمامًا، هو يوسف إدريس في قصته الشهيرة "النداهة"، الصادرة في العام 1969؛ بينما أنتج الفيلم في العام 1975، قامت ماجدة بدور فلاحة متطلعة بشغف وولع نحو المدينة، كجزء من خط رئيسي يبرز تداعيات الصدام بين براءة الريف وتوحش المدينة، صراع مستمر جعل من المدينة هي النداهة التي تخطف البشر، فلا يستطيعون الفكاك منها، إنه ما حدث لـ"فتحية" بطلة الرواية والفيلم التي إنتهت بها الأحداث للهرب فى المدينة الواسعة، الشخصية التي جسدتها ماجدة بقناعة التنوع والانتقال من شخصية إلى أخرى فتختبر طاقاتها وانفعالاتها الخاصّة وتنفتح أكثر على معنى التمثيل وعوالمه الشاسعة، إلى حد كبير ساعدتها "النداهة" في تحقيق ذلك الهدف الذي كلفها 560 ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم جدًا آنذاك.
كما أن ماجدة صارت واحدة من علامات سينما حرب أكتوبر، من خلال "العمر لحظة" (1978) عن رواية يوسف السباعي وإخراج محمد راضي، الذي تناول ملحمة جزيرة شدوان، إحدى معارك حرب الاستنزاف التي كانت تدور بين الجيش المصري والقوات الاسرائيلية على طول الجبهة، وكانت ماجدة هي الصحفية نعمت التي تقوم بإعداد تحقيقًا صحفيًا عن جنود الجبهة وعائلاتهم، حسب السيناريو الذي كتبه وجيه نجيب وأكده حوار عطية محمد، لتتكون تفاصيل فيلم جديد أنتجته ماجدة بشعور وطني مشتعل بعد حرب أكتوبر، لينضم هذا الفيلم إلى مجموعة الأفلام الأولى والشهيرة عن أكتوبر والعبور، في محاولة للتعبير عن النصر بعد هزيمة ونكسة تسببت إلى حد ما في ذعر اجتماعي، وكانت جزءً من تحولاته القيمية فيما بعد.
قد يبدو هذا بعد إنساني ملتبس الأبعاد الدرامية والجمالية ومتوغّل في مأزق المواطن المصري الناتج من الحرب، وإن لم يكن بالعمق الدرامي الكافي؛ لكنه على الأقل استعاد شيئًا من الذاكرة، وطرح أسئلة متعلقة بالحرب وتحولاتها، وإعلاء قيمة الوطن التي كرستها جملة الفيلم الشهيرة: "علشان مصر تعيش لازم أغلى الناس بتموت"، كما واجه مع منتجته صعوبات وصلت إلى حد منعه عربيًا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومقاطعة الدول العربية لمصر، مما تسبب في خسارة مادية كبيرة لماجدة، وبعد انتهاء فترة المقاطعة العربية لمصر، تعرض الفيلم للسرقة وتسرب على أشرطة الفيديو وقتئذ مما ضاعف من نسبة خسائر الفيلم.
يبقى أن مشوار ماجدة في عالم الإنتاج كان معقودًا بطموحاتها وبقناعاتها التي ترسخت منذ خطواتها الأولى، ودشنتها كممثلة لها حضورها الذاتي الذي دعمته بتجربتها الانتاجية باهظة التكلفة المادية والأدبية، لذا تبدو صادقة حين تتحدث عن الإنتاج في حواراتها وتصفه بأنه مهمة متعبة وصعبة، وحين تتطرق إلى إنتاجها الأفلام الوطنية والدينية، أصدقها أيضًا عندما تقول: "لم أكسب منها شيئًا، رغم أنها مكلفة جدًا وليس لها عائد، ليست تجارة، لكنها للتاريخ وللوطن وللفن".
ولذا أيضًا بقيت أفلامها حاضرة برسوخ حتى الآن، بدليل اختيار ثلاثة من أفلامها: جميلة، النداهة، المراهقات، ضمن قائمة استفتاء مهرجان أسوان لأفضل مائة فيلم عن المرأة في السينما العربية، الاستفتاء الذي شارك فيه 70 ناقدًا عربيًا خلال العام الماضي.
أما بالنسبة لاختياراتها التي تكثفت حول الروايات الأدبية، فهي جزء من تركيبتها الشخصية والثقافية، يعكس روحها التوّاقة إلى عالم الخيال، كذلك يمكن اعتباره ملمحًا من مشروعها السينمائي العام كممثلة شاركت في عدة أفلام مأخوذة عن روايات أدبية، مثلًا ما قدمته في دويتو لافت مع الفنان يحيي شاهين، ومنه "الغريب" 1956، إخراج كمال الشيخ وفطين عبد الوهاب ، عن رواية مرتفعات ويذرنج للكاتبة الإنجليزية إيميلي برونتي، وفيلم "هذا الرجل أحبه" (1962) إخراج حسين حلمي المهندس، عن الرواية الإنجليزية "جين أير" للكاتبة شارلوت برونتي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة