شرح لي المخرج أسامة فوزي، تمر ذكرى رحيله اليوم، ذات مرة كيف أن الحياة التي بلون واحد لا تحتمل، رأيته من قبل مِرارًا وتكرارًا، لكننا لم نتبادل حديثًا طويلًا إلا هذه المرة في العاصمة التونسية، حين كان عضو لجنة التحكيم بمهرجان أيام قرطاج السينمائية في العام 2015، على نحو غريب؛ مناقضًا لطبيعته الصامتة راح يتحدث كثيرًا عن السينما، حلمه غير المألوف، المغامر الذي تتلون فيه إختياراته السينمائية شكلًا وموضوعًا، صورة وسردًا، كما يتحد فيه الإنساني مع كسر التقاليد والثابت في النصوص، وفيه أيضًا تتداخل الإيقاعات والحركات، ثم تتوالى المشاهد على خلفية تشي بقوة الجمال الذي يواجه الواقع، الزمن والموت.
سينما مختلفة، "جوانية"، حسب توصيفه، تهتم بتفاصيل القصة والصورة.. كلامه كان لمّاحًا ومؤثرًا، خصوصًا مع إطراقته ونظرته الممتدة إلى الفراغ أمامه، عندما يذكر الموت كتفصيل محيّر تنتهي به الحكايات، وللموت في أفلامه حضور جامح، تمشي الحكاية في هواجسه ويلاحقها المتفرج؛ لا شيء يثنيه عن المتابعة والتأويل والانجذاب نحو الغامض والمجهول، إنها طريقة أسامة فوزي في جس نبض الكون وربما حماية نفسه التي لا تأتلف سوى مع حسه بالمدى والجمال.
الآن أصبح استئناف حديثًا إنقطع معه مستحيلًا، لأنه ببساطة قد غادرنا. نال الموت منه هذه المرة وليس من أحد أبطاله، سرقه الموت الذي سخر منه في أفلامه تارة، وأخرى جعله فيما يشبه الشعار الفلسفي الذي يلعب على وتر الحياة المغرم بالحلم والحب، بلا هلع أو مهادنة وإنما ببعض التأمل وأحيانًا التواطوء الذي يقصف عجرفته، وهو ما ظهر في أفلامه الأربعة: "عفاريت الأسفلت" ( 1996)، "جنة الشياطين" (1999)، "بحب السيما" (2004)، "بالألوان الطبيعية" (2009)، كل رصيده من الأفلام الروائية الطويلة منذ تخرج فى قسم اﻹخراج بالمعهد العالي للسينما في العام 1984.
الأفلام الأربعة، إثنان من تأليف الروائي والسيناريست مصطفى ذكري، والآخران من تأليف السيناريست هاني فوزي، وجميعها نابعة من رغبة في إلقاء نظرة على جوانب فكرية وإنسانية إنشغل بها المخرج، وتعيد طرح السؤال المعلق: هل كانت أفلام أسامة فوزي تحصن الذات من الموت؟
"عفاريت الأسفلت" أول تجاربه الروائية الطويلة، قصة وسيناريو وحوار مصطفى ذكري، فيه يتأكد المثل القائل "الطيور على أشكالها تقع"، فالمخرج والمؤلف يتفقان في الولوج إلى هذا العالم المهمش، كجزء من واقع إنساني في مجتمعهما، يقدمانه بجموح يدنو من شخصيات يتشظى مصيرها في هذه المساحة المهملة.. حارة، موقف سيارات الميكروباص، فقراء لا يصلون إلى شيء وتكتظ بهم الجدران الضيقة، مزيج مثير من الأنين الصارخ والرقة القاسية تمتليء به القصة المتشابكة، الزاخرة بشخوص وعلاقات مربكة، القصة التي جعلت من سائقي الميكروباص أبطالًا يتجاوزون الفكرة التقليدية للبطولة، عفاريت الأسفلت يأتون ويذهبون كالبرق والعاصفة على الطرق، ويعيشون في بيوت عتيقة، رطبة، معقدة في تكوينها البنائي كما تكوين العلاقات فيما بينهم، هذا التكوين الذي ضربه الخلل وأفقده المفاهيم الجوهرية للثقة والوفاء. مفاهيم خلت منها هذه الحياة التي بدت كما لو أنها أصيبت بعمى الألوان، سيد (محمود حميدة) هو سائق ميكروباص كما أبيه عبد الله (جميل راتب) وجده علي (محمد توفيق) وجميعهم يعيشون في شقة صغيرة مع الأم تفيدة (عايدة عبد العزيز) والشقيقة العانس إنشراح (سلوى خطاب)، يتعامل سيد كزعيم للمهنة، مفتون بشبابه، مراهناً به للخروج من الحارة الضيقة إلى عالم أوسع على مقاس أحلامه الطموحة، ولعل هذا ما جعله يرفض فكرة أن تتزوج شقيقته من رفيقه وصديقه المقرب رينجو (عبد الله محمود)، شكليًا يبدو قويًا؛ لكنه يضمر داخليًا شعورًا عكسيًا تجاه عالمه الفقير، المختل بعلاقات مختلطة ومتضاربة. التقاطع في العلاقات بينهم كان رمزًا للمخفي تحت كل غطاء، للزيف المستشري في مجتمع يواجه قسوة الواقع بالكثير من الكذب، إنه المصل الواق للدفاع عن وجودهم ومجابهة الموت والامحاء.
الموت لم يبدل شيئًا في عالم عفاريت الأسفلت ولم يغير الأحوال، لكنه في الفيلم الثاني "جنة الشياطين" نقل التجربة الإنسانية والانفعالية في قالب فني وجمالي أخاذ، ما صاغه مصطفى ذكري عن رواية "الرجل الذي مات مرتين" للكاتب البرازيلي جورجي أمادو، محاولة عنيدة وقاسية وعنيفة في الآن نفسه، حالة ذهنية وتجربة داخلية تعبر عن قلق كبير، قلق الحياة والموت معًا.. مصطفى ذكري لا يلتزم بالرواية البرازيلية حرفيًا، وإنما قام بتغيير جوهري في النص، فبطل الرواية يموت مرتين؛ أما في الفيلم فإنه يموت مرة واحدة، وإن ظلت الفكرة الرئيسية بارزة كرثاء استباقي وجدل غرائبي بين الواقع والخيالي، الفكرة تتمحور حول السؤال الوجودي عن الموت، هذا الحدث الذي تصعب مقاومته ويعجز الإنسان أمامه، هذا التخيل كان تحديًا عظيمًا لأسامة فوزي؛ فكيف يمكن أن يحيله إلى صورة؟!
الفكرة تجريدية عن الموت ومكثفة جدًا بدون تفاصيل كثيرة، لكن هذا ما فعله أسامة؛ حيث اشتبك مع فكرة الموت وشحذ جميع أسلحته الفنية وخبرته الجمالية من أجل الإمساك بهذه الحالة الذهنية التي قدمها مع أبطاله طبل (محمود حميدة)، نونّة (عمرو واكد)، بوسي (صلاح فهمي)، عادل (سري النجار)، حبة (لبلبة)، شوقية (صفوة).. شخصيات تتحرك في فراغ استثنائي في واقع خاص، يموت طبل وسط رفاقه، شياطينه الذين إختار من قبل أن يعيش معهم في عالمهم المحدود، كان هذا العالم هو جنته التي ينشدها، متحررًا من حياته القديمة، المملة في بيت العائلة الكبير، التقليدي، حياته الجديدة حولته من "منير رسمي" الموظف الكبير الملتزم، الجامد إلى "طبل" المقامر، السكير، الحر، من بيت عريق مقيد بعاداته وتقاليده إلى بارات الدرجة الثالثة الأكثر براحاً، لذا حين يموت يصبح الأمر شديد الدهشة لأصحابه الجدد، لا يصدقونه؛ فكيف يموت هذا الرجل الشغوف بالحياة؟ وعلى الرغم من التواطؤ الإيقاعي بين جثة طبل وأصدقائه، فإن الأمر لا يخلو من لهفة الترقب لما يوحي به هذا التواطؤ من إمتنان غير مشهود، لكنه محسوس ومستلب نحو ثنائية الامتلاك والعجز أمام الموت وعبثية هذا النائم، الماكر، المترف بالأوصاف المتناقضة، إنه مسجي أمامهم، فهل فعلًا خذلهم ومات، أم أنها طريقة من طرق خداعه المعهودة؟!
من هذا المنطلق نكزه "نونة" ثم هزه وهو يقول: "طبل .. مش فاهم.. أيه؟! مُت؟!"، سؤاله الاستنكاري يشير إلى أنه لم يستوعب فكرة الموت، ومنه يظل مع بقية فريقه طوال الفيلم لا يصدقونه ويتعاملون معه كأنه لايزال حيًا.. إنها أشد حالات السخرية من الموت، هذه السخرية التي تعكس في الأساس خوفًا مستترًا من الموت، يستفز مقاومته بالتشبث أكثر بالحياة، وإظهار ذلك بأفعال حسية حينًا وساذجة حينًا آخر، مختلطة بالضحك والقهقهة بصوت عال يؤكد أنهم مازالوا أحياء، يتعاملون بخفة تعينهم على المشاركة في هذه اللحظة العبثية، تتداخل المساحات المتباينة للضوء والظلام؛ فتشعل الخيال أكثر وكأن الموت قد نصب فخاخه بدهاء وسرية.
ينطلق الأصدقاء المشاكسين بسيارتهم ومعهم "طبل" كما لو كان يشهد على حياتهم الجديدة وهم يدخلون نفقًا ويتبادلون الحكي، الظلام يوحد كل العناصر في نفق المرور المجهول، قد يكون ذلك دلالة على أن الموت ليس نهاية وإنما تحوّل في الوجود وانتقال من حال إلى حال، تظلم الشاشة وينتهي الفيلم عند هذه النقطة الحائرة للموت.
كل شيء في "جنة الشياطين" يختلف عن "عفاريت الأسفلت"، الإضاءة هنا أقل خفوتًا والأماكن أكثر ضيقًا لتحقق كمال العزلة وخصوصية الحكاية التي أراد أسامة فوزي فصلها عن العالم الخارجي، لإبراز فكرته بصنع هذه المسافة مع تأكيد أن ما يحدث لا ينقطع عن الواقع المحيط، فهناك آخرون يعيشون خارج هذه المجموعة المعزولة بنسقها وتفاصيلها، هذا الصنيع البصري فعله أسامة مع مدير التصوير طارق التلمساني بجرأة تكسر الاعتيادي، ومن هذه الجرأة جاءت موسيقى فتحي سلامة حرة وغير تقليدية والأهم محورية في الفيلم، إنها حالة تختلف عن مزاج "عفاريت الأسفلت"، فيه كانت صورة طارق التلمساني مختلفة والكاميرا مفتوحة على المكان الذي يستنطق تفاصيل حياة متعطشة، كذلك موسيقى راجح داوود تحكي عن عالم آخر يحملق في غد متردد خلف ماض يترك صداه على الحاضر.
أما في "بحب السيما" فإن الخوف من الموت قد يكون ظاهرًا بشكل أكبر، أبرزته كاميرا طارق التلمساني وإدراكه لقيمة الحدث الدرامي، فجاءت كادراته المتباينة وتوزيع الضوء ما بين استيعابه لحالة الخوف، ومحاولات التحرر والانفتاح، معبرة بشكل تفصيلي عن هذه الحالة بكل ملابساتها، متمازجة مع موسيقى خالد شكري التي تحركت إلى ما أبعد من الحكاية إلى أقاصي الخيال الهش الذي رافق عدلي (محمود حميدة)، الأب المتزمت، أسير الأفكار الضيقة التي حرمته من متع الحياة والتي يسعى بتشدد أن يفرضها على أسرته، فيمنع مثلًا طفله نعيم (يوسف عثمان) من الذهاب إلى السينما بحجة أنها تدعو للفساد والانحلال، ويهدده:" إنت هتروح النار.. عارف ليه؟ عشان بتحب السينما.. بس مش إنت اللي هتروح النار، إنت وكل اللي بيحبوا السينما وبيروحوها!".
كما يمارس قهرًا مختلفًا على زوجته نعمات (ليلي علوي)، ناظرة المدرسة، الرسامة التي تدفن مواهبها الفنية بحجة أنها حرام.. عدلي هذا الأب المتعنت؛ مسجون في أفكار غالبًا هو غير مقتنع بها بدرجة تساوي تعصبه، فيخاطب ربه وهو ينتحب: "ما بحبكش أنا دايمًا خايف منك .. نفسي أحبك زي ما تكون أبويا"، الخوف يتمكن من قلبه أكثر من اليقين، بينما طفله الصغير يرفض هذا الخوف، إذ يسخر منه بضحكات مكبوتة، حين يراقب والده من خلف شيش النافذة وهو يصلي منتحبًا، مرعوبًا من فكرة أن يموت ولا يدخل الجنة.
يرفض الصغير الوصاية من الأب المرتعد ومن أي سلطة أخرى، بهذا المفهوم فتح أسامة فوزي جسرًا يريط الخاص بالعام، من حدود الأسرة المسيحية إلى المجتمع كله، من عدلي الأب بمفهوم رب الأسرة إلى عبدالناصر الرئيس، الأب، حسب النظام الأبوي وسيكولوجيته، الفيلم من هذه الزاوية يريد تحرير الطاقات المكبوتة، لا يبالي بالأنساق الأخلاقية والدينية، مع أن كل الشخصيات متورطة فيها، حتى عدلي نفسه يكذب لكي لا يتعرض للمساءلة حسب نصيحة رجل القانون.
يصبح الأمر أكثر تعقيدًا في الجزء الأخير من الفيلم، فنرى مشهد الغروب البديع ينسحب ليملأ الشاشة، محاولًا الربط بين المناخ السياسي السائد، نكسة 1967 وأزمة البطل، الإحساس باقتراب النهايات، ما جعل عدلي يرى الحياة بشكل مختلف، أوضح وأكثر نضجًا، جمال عبد الناصر أدرك الكثير بعد النكسة؛ لكنه كان يشعر بجرح عميق، وعدلي أدرك الكثير بعد نكسة مرضه؛ لكنه كان أقرب إلى الرحيل منه إلى البقاء وتغيير عالمه، يركب الدراجة ويحاول أن ينفتح على الكون ويسعد مع ابنه.
في هذا المقطع يبلغ ذروة التألق والانتصار على الخوف المستسلم أمام بهاء الحياة وتيارها الجارف وما تغدقه من فيض جمالي، يجعل عدلي يعيش فرحًا طفوليًا ويحظى بمتعتها التي حُرم منها سابقًا، إنها وسيلته لمواجهة الموت، مشهد بصري لا يتحقق بشكل كلي إلا عند إغماض العينين والدخول في غيبوبة الحواس، لكن الغروب لم يترك له نهار آخر، يموت عدلي، لتنقلب الدنيا وتصبح زوجته حاملة راية التسلط.. إذن فليسلم الغروب الذي راح إثره عدلي إلى ليل طويل، ولتنته ضحكات الأب والابن إلى صرخات، تعلو أكثر بعد الموت المفاجيء للجد في جلسة عائلية، إنقلبت هي الأخرى من الضحك إلى الصراخ الذي لم يهرب منه سوى الطفل الساخر من هذه الحياة بقهقهات عالية.
بينما كانت الهواجس والخيالات في "بالألوان الطبيعية" مدخلًا إلى موت آخر، موت مجتمع يرزح تحت الأفكار الدينية المتشددة، الرافضة للفنون، على الرغم من محاولات المقاومة، فالأشباح المطاردة كثيرة، ومن الموت الكبير إلى الموت الصغير الذي يقتنص محمود (سعيد صالح) الموديل الذي يرسمه طلبة الفنون، كان طالبًا فاشلًا بكلية الفنون؛ دائم الرسوب حتى أن أستاذه الإيطالي طالبه أن يترك الفنون ويبحث عن مهنة أخرى، لكنه كما قال: "زي السمك في المياه" لا يستطيع أن يبتعد عن هذه الكلية، لا يمتلك القدرة على الخروج من عالمها، تفاصيلها، نسقها القريب من روحه، فاختار أن يكون قريبًا منها بأقصى درجة متاحة له.
كانت وسيلته التي تضمن له ذلك أن يظل بالداخل هي العمل كموديل للطلبة، قالها ببداهة وهو يضحك ساخرًا من عبثية الحياة والموت:" الفنانين الكبار ما بيعرفوش قيمتهم إلا لما يموتوا"، نطق مقولته الساخرة بطريقة سريعة بدت كأنها مرتجلة، تختصر أسلوب سعيد صالح التمثيلي، لعبته المتقنة في المزج بين أدائه الجسدي ونبرته الصوتية، عين تلمع وشفاه تنفلت منها الكلمات بسلاسة تمنح الحوار والمشهد بأكمله صدقًا، جمالية وحساسية مرهفة، تزيده عمقًا ينفتح على الحكاية بمضمونها الفني والإنساني، وهنا لا يتردد الموت في لعبة االسخرية الأعم والأشمل، فيموت "الموديل" الساخر.
ربما يعكس الموت في هذه الحالة شيئَا من صدق المقولة السابقة، لكنه أيضَا قدر الإنسان؛ فلابد أن يرحل في نهاية المطاف.. إذن، فإن الموت تيمة رئيسية في صياغة أسامة فوزي السينمائية عن حياة يعيشها ناسها على الأغلب خائفين، مترقبين، مصطدمين بكل ما هو بديهي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة