في الوقت الذى تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية العالمية، إثر الصراع في أوكرانيا، وتداعياته المرتبطة بأمن الطاقة والغذاء، وهي القطاعات التي تمثل أولويات اقتصادية في كل بلدان العالم، سواء المتقدمة أو النامية، لارتباطها بمفهوم الأمن القومي، بالإضافة إلى عدم قدرة العالم على التعافي الكامل من أزمة الوباء، الذى تفشى وضرب العالم في السنوات الماضية، مما أسفر عن فترات طويلة من الإغلاق، وبالتالي توقف عجلة الاقتصاد العالمي طويلا، تبقى الحالة المصرية أحد أبرز الحالات الجديرة بالدراسة، ليس لأنها بعيدة عن الوضع العالمي، ولكن لأنها قدمت نموذجا فريدا في المرونة في الكيفية التي تعاملت بها مع تلك الأزمات، وهو ما يمثل نتيجة مباشرة لعمق الرؤية التي تبنتها الدولة، في سنوات ما قبل الأزمات.
ولعل المتابع للنهج الذى تبنته مصر في السنوات الماضية، وتحديدا مع انطلاق "الجمهورية الجديدة"، يجد حزمة من الإصلاحات، امتدت من الجانب الاقتصادي، مرورا بالبيئي، وحتى الدبلوماسي، قامت في جوهرها على سياسة تعتمد على تغيير المفاهيم، عبر تطوير الأدوات المتاحة، في مختلف دوائر الدولة، عبر تحويل شمولية العملية التنموية، إلى الاستدامة، واعتماد مفهوم "الشراكة"، سواء فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، أو حتى في العلاقة بين الدولة والمواطن، من أجل تحقيق المصلحة العامة، وعلى رأسها مصلحة المواطن المصري، في كافة المجالات، ناهيك عن تعزيز سياسة الحوار، مع كافة الفئات، للوصول إلى أرضية مشتركة، وصولا إلى الحوار الوطني الجامع لكل الأطراف، من أجل مناقشة الخطوات المستقبلية، والكيفية التي يمكن بها مواصلة الطريق نحو التنمية، ومجابهة الأزمات الراهنة في آن واحد.
فلو نظرنا إلى سياسات الدولة المصرية خلال سنوات ما قبل الأزمة، نجد أنها اعتمدت عدة مسارات متوازية تقوم في الأساس على "تطوير الأدوات" المتاحة، ربما أبرزها إحياء القطاعات التي نال منها الإهمال، على رأسها الزراعة، والتي شهدت تجريفا متعمدا لسنوات، وهو ما يبدو في العديد من الخطوات، منها ما هو قانوني، عبر إرساء إجراءات صارمة بحق من تسول له نفسه انتهاك حرمة الأراضي الزراعية، وأخرى توسعية، عبر اقتحام الصحراء، لزيادة الرقعة الزراعية، بينما كانت خطوات أخرى من شأنها التركيز على المحاصيل الغذائية، وهو ما يبدو في مشروع صوامع القمح، الذى يمثل انعكاسا صريحا لرؤية عميقة، واستباقا لأزمة عالمية، جراء الأوضاع في أوكرانيا، عانت منها العديد من الدول حول العالم، في حين عززت الدولة القطاع عبر إدخال التكنولوجيا الحديثة وتطويعها في سبيل تذليل كافة المعوقات التي قد تواجه هذا القطاع الحيوي.
الدولة اعتمدت سياسة تطوير الأدوات، فيما يتعلق كذلك بقطاع الطاقة، وهو أحد القطاعات التي تأثرت بالأزمة الراهنة، عبر تنويع مصادرها، بدءً من استكشاف مواردها من الغاز الطبيعي، والعمل على الاستفادة منها، ليس فقط على المستوى المحلى، وإنما أيضا على المستوى الإقليمي، عبر تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، بالإضافة إلى التوجه نحو الاعتماد على الطاقة الشمسية، في توليد الكهرباء، عبر إطلاق مشروع مجمع "بنبان" في أسوان.
وعلى ذكر قضية الطاقة، يبدو أن الرؤية المصرية، في هذا الإطار، امتدت إلى مشروعات البنية الأساسية العملاقة، التي اتسمت بعنصري الشمولية، والاستدامة، حيث شملت كافة محافظات الجمهورية، وعلى رأسها تلك التي نالها التهميش لعقود طويلة، وهو ما يمثل أهمية كبيرة لتقليل مستويات البطالة في كافة المناطق من جانب، بالإضافة إلى تخفيف الضغط السكاني على العاصمة من جانب أخر، بينما ارتكزت على الأبعاد البيئية، والتي تمثل أساسا لا يمكن تجاهله فيما يتعلق بمفهوم التنمية المستدامة.
تطوير الأدوات لم يقتصر على المشروعات أو القطاعات، وإنما امتدت إلى السياسات، والتي حملت في طياتها تغيير المفاهيم السائدة، أو بمعنى أدق تطبيق الهدف منها، وعلى رأسها سياسات "الدعم" التقليدية، والتي كبدت موازنة الدولة الملايين لعقود طويلة من الزمن، دون أن تذهب معظم هذه الأموال لمن خصصت من أجلهم، لتتحول نحو مفهوم "الحماية" الاجتماعية، من خلال دعم الفئات الأكثر احتياجا، بينما تحول "الدعم" الذي تقدمه الدولة، في جزء منه، لتطوير القطاعات التعليمية والخدمية والصحية المقدمة للمواطنين، من جانب، أو مزايا تقدم للمتفوقين، من شأنها تشجيع القادرين على خدمة وطنهم، في المستقبل.
وهنا يمكننا القول بأن "تطوير الأدوات" المصرية، يمثل نهجا مصريا بامتياز، يعكس رؤية عميقة استطاعت من خلالها استباق أزمات طاحنة يمر بها العالم، وساهمت في تعزيز مرونة الدولة في إدارتها، على الرغم من تداعياتها الكبيرة، والتي طالت مصر بكل تأكيد، كما طالت كافة دول العالم، باعتبارنا جزء لا يتجزأ من المحيط الدولي، إلا أن الخطوات الاستباقية التي شهدتها بلادنا خففت بكل تأكيد من تلك التداعيات، خاصة إذا ما نظرنا، ليس فقط إلى الدول النامية، وإنما أيضا إلى دول أوروبا الغربية، وما تتمتع به من إمكانات كبيرة، تعاني كثيرا إلى الحد الذى يتزايد فيه القلق مع اقتراب فصل الشتاء، ولجوء بعضها إلى العودة إلى الفحم، في خطوة تمثل عودة كبيرة إلى الوراء، مع تفاقم خطر التغيرات المناخية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة