تعد الموارد الطبيعية، وهى تلك الموارد التي وهبها الله عز وجل للإنسان من دون تدخل منه، أحد مصادر قوة الدولة المصرية، حيث تمتلك مصر الكثير من تلك الموارد والثروات التي تعد مقوما من مقومات القوة، ومحددا من محددات الدور القومي لمصر، ومعززا لمكانتها الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفي هذا الإطار كشف الرئيس عبد الفتاح السيسي عن واحدة من أبرز تلك الموارد الطبيعية التي تمتلكها مصر والتي تتمثل في "الرمال السوداء" التي كانت كنزا مهملا لعشرات السنين، بافتتاحه مصنع الرمال السوداء قبل يومين، هو الأحدث من نوعه على مستوى العالم باستخدام تكنولوجيا التعدين المتطورة، ويعتبر إضافة جديدة لسلسلة المشروعات القومية الكبرى التي تهدف إلى تعظيم الاستفادة والاستغلال الأمثل لموارد مصر الطبيعية، وتحقيق القيمة المضافة للمعادن المستخلصة من الرمال السوداء، التي تستخدم في العديد من الصناعات الدقيقة التي تصب في دعم الاقتصاد الوطني وعملية التنمية الشاملة.
وعلى ما يبدو لي فإن الطبيعة تتصالح مع مصر في ظل تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تجتاح العالم حاليا، باكتشافات عدة لما تذخر به البيئة المصرية من كنوز لم تستغل بعد، بل أو بالأحرى لم تكتشف بعد، وهو ما تمثل في كنز مصر المفقود الذي كشف عن الرئيس السيسي قبل يومين، حيث تمثل صناعة الرمال السوداء خطوة على طريق دعم وتوطين الصناعات المحلية، من المتوقع استخلاص نحو 300 مليون طن من المعادن في منطقة البرلس فقط، ويمكن أن تحقق عائدًا اقتصاديًّا يصل إلى أكثر من 300 مليار جنيه، ومن هنا أشعل الرئيس شرارتها بعد طيها في سجلات النسيان على مدار عشرات السنوات، وهذا في الوقت الذي تمثل فيه ثروة اقتصادية ضخمة، لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة وخفض فاتورة الاستيراد، وتعتبر صناعة الرمال السوداء ثروة معدنية كبيرة، وهى عبارة عن رواسب شاطئية سوداء تتكون من معادن كثيفة، تأتي من منابع النيل وتتراكم على بعض الشواطيء المصرية بامتد حوالي 400 كم على ساحل البحر المتوسط، من رشيد حتى العريش وإدكو شمال محافظة البحيرة، وشمال سيناء ودمياط ورشيد وبلطيم.
ومعلوم أن داخل المجمع التابع لـ "الشركة المصرية للرمال السوداء"، يجري حاليا استخلاص الركائز المعدنية الاقتصادية من الرمال السوداء سواء من سطح الأرض أو من المياه وفصلها وتسويق منتجاتها محليا وعالميا، وتمتلك مصر11 موقعا غنيا بالرمال السوداء، ويتم فصل تلك الرمال في أماكنها بأجهزة خاصة، وتتحول بعدها لمنتجات استراتيجية و41 صناعة مهمة، وفق بيانات حكومية مصرية، ومن ثم يأتي افتتاح المشروع المصري البارز استجابة لتكليفات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتعظيم القيمة المضافة للمعادن الاقتصادية المستخلصة من الرمال السوداء في مصر، والذي اعتبر في حديثه نهاية العام الماضي أن المعادن المستخرجة ستحقق للبلاد أكبر فائدة اقتصادية واستثمارية.
وومن هنا قال الرئيس السيسى، خلال كلمته فى افتتاح مصنع الرمال السوداء، إن الدولة المصرية ليس أمامها وقت لإضاعته، مضيفا: "نشجع العمل فى مشروع الرمال السوداء، علشان مفيش وقت أو فرصة نضيعها، ومش ينفع نقول ماشى بقى إن شاء الله نبقى نفكر، دى فلوس بنحطها ونأمل أنها تجيب لنا حاجة وبنعمل ده جنب ده، يقوم البلد تطلع لقدام.. والرمال السوداء محتاج متابعة بدقة شديدة"، وتابع الرئيس: "أرجو أن رسالتى تصل للقطاع الخاص.. خشوا لوحدكم هنساعد معاكم.. ماشي.. بشراكة ندخل معاكم، بحيث نقدر نعمل أكثر من مجمع للرمال السوداء".
وأشار، إلى أن الأمور الخاصة بعمل مجمع مصانع الرمال السوداء أصبحت متوفرة، قائلا: "طبعا كل الأمور الأساسية بقت متوفرة، سواء مياه معالجة وتحلية بحر، والكهرباء والطرق، وهنكمل.. بنشكر الشركات المدنية وشركات التعدين.. كل اللى اشتغل فى هذا المشروع أوجه له التحية والشكر"، وقال الرئيس: (أول مرة نقدم على خطوة في هذا المجال، هتكونوا رواد في هذا المجال وربنا سبحانه وتعالي يجعل فيه خير كتير، نعمل أكثر من مجمع زي كده خلال السنوات القليلة القادمة".
وبحسب خبراء اقتصاديين، فإن مصر ستحقق استفادة كبرى من مشروع الرمال السوداء، بتعظيم القيمة المضافة للمعادن المستخلصة منها، ثم تحويلها إلى منتجات لمختلف الصناعات، الأمر الذي يساهم في دفع عجلة الاقتصاد بالبلاد، فمصر تمتلك موارد طبيعية مهمة، وظلت لسنوات تصدرها ثم تستوردها في صورة سلع مصنعة، مما يكبدها خسائر كبيرة، ولهذا اتجهت لتغيير تلك الاستراتيجية بتنفيذ عدد من المصانع للاستفادة من هذه الموارد لخلق قيمة مضافة بشكل أكبر بدلا من تصدير المنتجات كمادة أولية، بما يحقق عوائد إيجابية على الاقتصاد الوطن، وبنجاح هذا المشروع سوف يؤكد الاقتصاد المصري على تنوعه وإختلاف مصادره لتتخذ مصر مكانا بين كبريات الدول الصناعية.
والرمال السوداء تعرف بأنها رمال تحتوي على نسبة عالية من المعادن الثقيلة تكتسب أهمية اقتصادية حيث تدخل في صناعات استراتيجية هامة، وأطلق عليها هذا الاسم لاحتوائها على نسبة عالية من معادن الحديد ذات اللون القاتم الأسود مثل الإلمنيت والماجنتيت، ومن أبرز المعادن الموجودة في الرمال السوداء معادن الإلمنيت، الزركون، الماجنتيت، الروتيل، الجارنت بالإضافة إلى المونازيت والذى يحتوى على مواد مشعة، وتعمل الدول على استخلاص تلك المعادن من الرمال السوداء لاستغلالها اقتصاديا وفي الوقت نفسه تطهير الشواطئ من المواد المشعة الضارة بالبيئة، فضلا عن أنها تحقق دخلا سنوي يعادل ثلث دخل قناة السويس بجانب قيامه بتوفير فرص عمل ويعمل على توطين الصناعة.
وأثبتت دراسة حديثة للدكتور أحمد سلطان، الخبير المشارك بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن مصر اتخذت خطوات جادة في سبيل تطوير قطاعها التعديني ورفع مساهمته في الاقتصاد القومي، بداية من تطوير التشريعات ذات الصلة لجذب الاستثمارات، ضمن استراتيجية شاملة لتطوير القطاع بمختلف أنشطته، بهدف تحقيق أقصى استفادة من ثروات مصر التعدينية، والعمل على زيادة القيمة المضافة منها، وزيادة مساهمة النشاط التعديني في الناتج المحلي الإجمالي، وذلك ضمن خطة لتحويل مصر إلى مركز عالمي للتعدين.
وأضافت الدراسة أنه في إطار استكمال الرؤية التنموية للدولة المصرية لبناء الجمهورية الجديدة في جميع قطاعات ومجالات الدولة، جاء الاهتمام بقطاع الثروة المعدنية من خلال صياغة رؤية استراتيجية شاملة لتطوير هذا القطاع، بما يسهم في استكشاف أهم مناطق الثروات المعدنية الكامنة في ربوع مصر، وبما ينعكس في الوقت ذاته على زيادة نسبة مساهمته في الناتج القومي الإجمالي والتي تقدر الآن بحوالي 0.5%، وتستهدف رؤية تطوير قطاع التعدين زيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي إلى 5% خلال العقدين المقبلين.
وذكرت الدراسة أن استراتيجية مصر للاستفادة من الرمال السوداء تعد من الأفكار المتميزة لاستثمار تلك الثروة المنسية وتعظيم الاستفادة منها، إذ يجرى الاستفادة من الرمال السوداء في إطار ما لدى الدولة من رؤية واضحة للنهوض بقطاع التعدين وزيادة مساهمته في الدخل القومي بما يتناسب وحجم الثروات التعدينية التي تزخر بها مصر، والرؤية الاستراتيجية للتعدين التي تتوافق مع رؤية مصر 2030 لتحقيق التنمية المستدامة وتوفير مشروعات تعدينية ذات قيمة مضافة أعلى يترتب عليها توفير فرص عمل، وإضافة حلقات صناعية، وجذب استثمارات جديدة مباشرة، خصوصا أن مصر تمتلك ميزة تنافسية مهمة، وهى توافر بنية تحتية قوية تعمل مصر على تطويرها باستمرار، ومرونة للمستثمرين في النشاط التعديني سواء في أعمال النقل والتصنيع والإنتاج وتوافر الطرق والكهرباء والمواني.
ولابد لي من ألفت النظر إلى أنه منذ نحو 90 عاما بدأت مصر في استغلال الرمال السوداء، وكان ذلك في آواخر الثلاثينيات من القرن الماضي على يد مجموعة من الأشخاص اليونانيين، لكن فصل معادنها كان يجري بطريقة بدائية، ثم في الأربعينيات أنشئت شركة الرمال السوداء المصرية ومقرها الإسكندرية واستمرت في العمل حتى تأميمها في 1961 وتعثرت فيما بعد وتوقفت الشركة، وطوال السنوات الماضية استمرت محاولات استغلال الرمال السوداء في مصر وتحديدا في منطقة "البرلس" التي تمتلك أكبر تركيز للمعادن الاقتصادية، لكن غياب الإرادة السياسية للتنفيذ أحالت دون إتمام إنشاء مصنع الرمال السوداء في كفر الشيخ بعد أن وضع حجر الأساس له في التسعينيات من القرن الماضي.
وبعد تولي الرئيس السيسي أعاد الاهتمام بهذا الملف حيث تأسست أول شركة مصرية للتعدين وهى الشركة الوطنية للرمال السوداء بالبرلس بالمدينة كفر الشيخ، والتي أشهرت في فبراير 2016، وبعدها وافقت الهيئة العامة للتنمية الصناعية على تنفيذ مشروع استخلاص المعادن الثقيلة من الرمال السوداء بمحافظة كفر الشيخ، ونفذ المشروع على مساحة 80 فدانا، حيث يضم مجمع الرمال السوداء الجديد في البرلس 6 مصانع لفصل المعادن من ركاز الرمال السوداء، وقد بدأت المرحلة الأولى للتعدين من كثبان البرلس الممتدة على الشريط الساحلي بطول 16 كيلومترا بإجمالي 3500 فدان، وذلك باستخدام الكراكة "تحيا مصر" هولندية الصنع.
وتعد الكراكة تحيا مصر أول كراكة تعمل بالطاقة الكهربائية وصديقة للبيئة وتقوم بدفع المياه في اتجاه الكثبان الرملية فتنساب إلى قاع البحيرة الصناعية، بالإضافة إلى أعمال تكريك بعمق يصل إلى 18 مترا لتسحب الماء المختلط بالرمال إلى المضخة الرئيسية بالكراكة ليعاد ضخها مجددا إلى مصنع التركيز العائم داخل البحيرة مرورا بخطوط الأنابيب، وأسهم في توفير أكثر من 5 آلاف فرصة عمل وبلغت تكلفته نحو 4 مليارات جنيه، ويبلغ صافي الموارد القابلة للتنجيم في المشروع 238.5 مليون طن، حسبما أوضحت الشركة المصرية للرمال السوداء بمتوسط تركيز للمعادن الثقيلة يبلغ 3.39% تكفي للتشغيل لمدة حوالي 16 سنة بمعدل استغلال يبلغ 15 مليون طن/ سنة، وسيمثل إنتاج الشركة المتوقع حوالي 3-5% من الإنتاج العالمي.
وتستخدم المعادن المستخلصة من الرمال السوداء العديد من الصناعات، من بينها صناعة السيراميك وكذلك صناعة الخزف والدهانات، وأيضا صناعة هياكل الطائرات والسيارات، وكذلك الصناعات الإلكترونية والتكنولوجية المتنوعة، وسيعمل مشروع مصنع الرمال السوداء في البرلس على إنتاج العديد من المعادن الاقتصادية الهامة والتي تدخل في العديد من الصناعات الاستراتيجية مثل معدني الألمانيت والروتيل وهما مصدر رئيسي لإنتاج معدن التيتانيوم، وهو معدن يدخل في الصناعات الاستراتيجية الهامة مثل صناعة هياكل الطائرات والصواريخ والغواصات ومركبات الفضاء والأجهزة التعويضية.
كما سينتج المشروع ثاني أكسيد التيتانيوم وهو معدن يستخدم في تصيين الدهانات والأصباغ والورق والجلود والمستحضرات الطبية، وكذلك سينتج المشروع معدن الزيركون الذي يدخل في صناعة السيراميك والأدوات الصحية والزجاج والسبائك المواتير وتركيبات الأسنان وتبطين الأفران، كما يدخل معدن الماجنتايت في صناعة الحديد الإسفنجي وحديد الزهر عالي الجودة والخرسانات التي تتحمل درجات الحرارة العالية والأسمدة المعدنية ويستخدم في إزالة ملوحة التربة.
ويدخل معدن الجرانيت في صناعة أحجار الخلج وأوراق الصنفرة وأيضا فلاتر المياه وقطع الرخام والجرانيت بضغط الهواء والمياه، كما يعد معدن الزيركون مصدرا رئيسيا للعناصر الأرضية النادرة والتي تستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الصناعات عالية التقنية، مثل الهواتف الذكية والسيارات التي تعمل بالكهرباء، ومصدرا ثانويا للسيريوم واليورانيوم، وهذا كله من شأنه أن يدفع بالاقتصاد المصري إلى الأمام ويصنع مستقبلا أفضل للمصريين من الأجيال الجديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة