فوز الأفلام البحرينية بمهرجان البحرين السينمائي في دورته الثانية: "سلام" إخراج أحمد أكبر (جائزة فريد رمضان)، شهادة تقدير من لجنة التحكيم للممثل جمعان الرويعي عن دوره في فيلم "تيه الحمام"، وشهادة تقدير للمخرجة تقوى محمود جواد عن فيلمها "الحذاء الذي يصغر كل ليلة"، بقدر ما هو محاولة لدعم وترسيخ مكانة الفيلم البحريني، فإنه يمكن اعتباره أيضًا انعكاسًا فعليًا لنبض الإنتاج والإبداع، والتواصل الثقافي الفني الجاد.
هذه الجدية كانت من أبرز من أبرز ملامح جوائز مهرجان البحرين السينمائي، التي تنافس عليها نحو 49 فيلمًا، فغير أنها توافقت إلى حد كبير مع شعاره "سينما لأجلك، فكرة الاحتفاء بالمواهب السينمائية الشابة (بحرينيًا وعربيًا)، والمساهمة في إبراز إبداعات جديدة، فإنها أيضًا عززت الدور الثقافي للمهرجان، كحدث سينمائي مهم وضروري، أقامه نادي البحرين للسينما برعاية من هيئة البحرين للثقافة والآثار، في مناخ عابق بالسينما وعوالمها المفتوحة على الجمال والحرية والأسئلة والانفعالات المتنوعة.
صحيح أن المشهد السينمائي البحريني مازال محتاج إلى مزيد من النشاطات الثقافية والفنية المتنوعة، وأن الصناعة السينمائية في البحرين تقتضي توافر رأس المال والتمويل والاستثمار، وخطط للإنتاج المنتظم والوافر، إضافة إلى المعامل والكوادر الفنية المحترفة، لكن المهرجان يعد خطوة لازمة لتفعيل الإنجاز المطلوب.
على أية حال، فإن الجوائز الأخرى خارج المشهد البحريني، تآلفت مع التأسيس الجدي للفعالية وللصناعة السينمائية، فلما كان الحضور المصري واضحًا بعدد كبير من الأفلام وتُوج بثلاث جوائز، فإنه يلخص بقدر ما تغير في الخريطة السينمائية والمنافسة العربية، وإن ظل المصري سابق بمسافة بحكم كم الإنتاج والخبرة، وعمومًا فالجوائز التي فازت بها الأفلام المصرية، تعبر عن تيارات جديدة ومتباينة، تنحاز جميعها للقطات الإنسانية والميل إلى الاختيارات الفنية شديدة الخصوصية، فهناك ما يشد المتلقي لمتابعة "خط في دائرة" إخراج محسن عبد الغني، الفائز بشهادة تقدير، هدوء قوي في التقاط النبض الإنساني في لقطة سينمائية واحدة، تكشف الوجوه وما تخفيه، والانفعالات وما تظهره، والتفاصيل الصغيرة بمجرد تركيز الكاميرا على وجه البطل الذي جسده كريم قاسم، هنا يغوص المخرج مع بطله في هواجس فنية يمتزج فيها الخيالي بالواقعي، وهو بالأساس مستوحى من (أحلام فترة النقاهة) لنجيب محفوظ، مزيج استثنائي بلغة بسيطة دمجت بين الحالة السينمائية والعمق الإنساني في سيناريو محكم.
التقاط الانفعالات الإنسانية للشخصيات الغارقة في ارتباكها الظاهر والمبطن وتعبها المزمن، نحسه كذلك في ( potato) للمخرج محمد البدري، الفائز بجائزة أفضل فيلم روائي قصير، لتكون بذلك الجائزة الـ 50 بعد مشاركته في مهرجانات دولية أخرى، تجربة فنية مختلفة وممتعة، حيث تمكن المخرج من تحويل لوحة (آكلو البطاطا) لفان جوخ إلى دراما منطوقة تحكي عن معاناة إنسانية عميقة، إنطلق من اللوحة ليصيغ الحكاية ويتخيل شخوصها ويضع لها نهاية ملائمة، صياغة مثيرة إستخدم فيها عناصر فنية عدة بمهارة، الماكياج، الديكور، الإضاءة التي تمزج الرمادي بالغامق، وتصنع من المزيج لونًا يضع المتلقي أمام التباس الحقائق الإنسانية.
هذا الخيال المثير نراه بدرجة أخرى في فيلم التحريك الفائز بجئزة أفضل فيلم "بكرة خيط" إخراج أية فؤاد مدني، فيه نرى التحريك مثيرًا للانتباه، جزءً أساسيًا من صناعة الصورة الفنية الجديدة، وله سطوة جمالية مؤثرة في بنية الصورة.
هذا ما نلمسه بوضوح في الفيلم السعودي (جوي) إخراج فائزة أمبا، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي، فيلم يتبنى تيمة فنية حرة، تتوغل في عمق مجتمعه، وتتلمس وجدان مهمشيه، وخلال هذا التوغل يطرح السينما كشكل تعبيري للتحرر من الانغلاق والصرامة، بما يصنع أفقا للأمل والبهجة من خلاله انطلاقه في عالم المهمشين، بين أطفال ومراهقي الحارة ومحاولة تأسيس علاقتهم بالسينما.
كذلك فوز الفيلم السعودي (عثمان) إخراج خالد زيدان بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وفيه تتماس الكوميديا والسخرية من واقع نمطي ورتيب لموظف أمن بسيط، يحمل تفاصيل ولمحات واقعية، مطروحة بصريًا بأسلوب جمالي يعبر عن التحولات التي عاشها بطل الفيلم.
هنا نجد أنفسنا أمام إنجاز يغوص في تشعبات الحالات الإنسانية بحثًا عن معنى العلاقة بين الصورة والواقع والحياة، تجارب لشباب سعودي، لديهم قدرة على إنجاز أفلام نابعة من حماسة واضحة في امتلاك لغة تعبير بصرية، وفي تطوير أدوات العمل الفني، وفي السعي الجاد إلى اللحاق بالعصر السينمائي، الذي سبقهم سنين طويلة جدًا.
هذا التنوع البصري نلحظه في أفلام أخرى مثل"مكان في الزمن" إخراج نواف الجناحي، حيث فاز مدير تصويره (ريكاردو براتس) بشهادة تقدير، قدم الفيلم معالجة درامية ذهبت بصريًا نحو مناطق كاشفة، وناقلة للعلاقات الإنسانية، حيث تبرز الصورة كعنصر أساسي في الحكاية، بحساسية مرهفة.
بينما يتجلى الصنيع البصري أيضًا في الوثائقي السوري ( الناس اللي فوق) إخراج فراس محمد، الفائز بشهادة تقدير في مسابقة الأفلام الوثائقية، إذ يصنع الفيلم الجميل نوعًا من الدهشة السينمائية، بجميع عناصره الفنية، حيث يغوص في ليل دمشق ويتتبع مساراتها من خلال شخوصه: راقصة تعمل حتى لا تكون عبئا على أحد، وناس متعبون في السوق والشارع، حافظ في مساره على مسافة واحدة من الجميع وقدم رؤية سينمائية نابضة وبناء سينمائي صلب في سرده وبنيته الفنية الكاشفة لحياة توثق للمدينة وناسها، صورًا للمعاناة الفردية والوجع الإنسانيّ، في مشاهد متتالية من اللقطات الحية التي عكست قسوة الحياة في امتحان البشر قدرتهم على المواجهة والتحدي.
بمزاج آخر تناول الروائي الفلسطيني القصير، الفائز بشهادة تقدير "ستة أيام لا تكفي" إخراج محمود أبو شمسية وثائر متولي، لغة سينمائية مباشرة، اشتغل فيها على لحظة محورية في تاريخ النضال الفلسطيني، لحظة تثير التأمل في هذا النضال وجغرافيته، وتنطلق من الذاتي إلى العام، لتكشف ما هو أبعد وأعمق.
وبهذا التنوع والتباين في التجارب المختلفة التي شاهدناها، يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى يمكن القول إن هناك أفقًا جديدًا لسينما عربية شابة؟.. هذا ما ستكشفه الأيام والسنوات المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة